أنس القاضي
مع حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وجدت الجزيرة العربية نفسها في موضع التجاذب بين قوتين استعماريتين، أولاهما القوة العثمانية المتواجدة في بعض مناطق الجزيرة العربية، وأما الأخرى فهي القوة البريطانية المتمركزة في عدن.
حرص البريطانيون بعد احتلالهم لمدينة عدن، على تدعيم سيطرتهم على محيطها، والاستفادة من موقعها الاستراتيجي، فأصبحت مستعمرة عدن قاعدة للتوسع والانطلاق لبسط النفوذ الاستعماري البريطاني في جنوب الجزيرة العربية وحوض البحر الأحمر، فيما ظلت منطقة الحجاز وتهامة اليمنية خاضعة للإدارة المصرية تحت السيادة العثمانية.
سيطر العثمانيون على تهامة اليمنية والحجاز، بعد إحباط محمد علي باشا التحركات الوهابية في الجزيرة العربية وإسقاط الدولة السعودية الثانية، وهكذا اصبح للمصريين حق السيادة على البحر الأحمر لصالح السلطة العثمانية، وعلى الرُغم من ان السلطة البريطانية لم تعترف لمحمد علي باشا بأي حق في منطقة عدن التي كانت تابعة لسُلطان لحج، فقد رأى المقيم السياسي البريطاني في عدن الكابتن هينز ان يبعث رسالة إلى ابراهيم باشا قائد القوات المصرية العثمانية في اليمن، ويُحيطه علماً بأن عدن أصبحت ملكا للبريطانيين، وكان المقصود من هذه الرسالة التي بعث بها المقيم السياسي البريطاني تحذير القوات المصرية العثمانية من الاقتراب من عدن.
في مؤتمر لندن عام 1840م تغير موقف السياسة الدولية من محمد علي باشا، فأخذت بريطانيا على عاتقها تنفيذ قرار المؤتمر القاضي بإزاحة الوجود المصري من الجزيرة العربية، وفُسِحَ بذلك المجال واسعاً أمام بريطانيا للتوسع جنوب الجزيرة العربية، وعقب انسحاب قوات محمد علي باشا، سلمَ منطقة تهامة اليمنية إلى الشريف حُسين ليحكمها ممثلاً عن الامبراطورية العثمانية، لكن إمام اليمن الذي خاض مقاومة ضد العثمانيين تمسك بموقف رفض تسلَّيم تهامة إلى الشريف حسين باعتباره الحاكم الشرعي الوحيد للأراضي اليمنية، والأحق بتهامة.
اتبع البريطانيون منذ سيطرتهم على عدن مبدأ عدم التدخل في الصراع بين القبائل اليمنية في الجنوب، إلا بالقدر الذي يتفق مع المصالح البريطانية، كما ركزت بريطانيا على عقد معاهدات الولاء والصداقة المصحوبة بالمشاهرات المالية التي تُصرف لشيوخ القبائل وزعمائها.
قاوم السُلطان محسن فضل العبدلي الوجود البريطاني في عدن التي كانت خاضعة لسلطنته، وحاول العبدلي توحيد القبائل المجاورة من أجل طرد الانجليز من عدن وكان له دور مشهود في مقاومة الاحتلال، وبعد وفاة السلطان محسن في عام 1847م خلفه في الحكم ابنه احمد بن محسن العبدلي، الذي آثر السلام مع الانجليز وأصبح موالياً لهم ولم يستمر حكمه أكثر من عامين.
بعد وفاة السلطان أحمد بن محسن العبدلي الموالي للانجليز سنة 1849م خلفه في حكم لحج اخوه علي محسن العبدلي، وكان علي محسن العبدلي في بداية الأمر صاحب موقف معاد لبريطانيا يُظهر الود لعدن فيما يُثير السلطنات المجاورة له ضد السلطة الاستعمارية في عدن، وقد عانت الادارة الاستعمارية البريطانية في عدن من مشاكل كثيرة، وفي نهاية المطاف توصل البريطانيون إلى عقد اتفاقية مُلزمة مع علي محسن العبدلي وأصبح مواليا للاستعمار.
رغم توقيع سلطان لحج علي محسن العبدلي اتفاقية مع الادارة الاستعمارية البريطانية في عدن لكن المقاومة اليمنية لم تهدأ في المناطق الجنوبية القريبة من عدن بعد توقيع هذه المعاهدة، وتعددت الصدامات بين القبائل اليمنية الجنوبية وبين الادارة الاستعمارية البريطانية، وقد شهد عام 1850م نشاطاً ثورياً مكثفاً قامت به القبائل اليمنية الجنوبية ضد السُلطة الاستعمارية البريطانية في عدن، ولم تنجح هذه المحاولات الثورية في طرد بريطانيا لانعدام التنسيق والوحدة بين أطرافها كما كان من أسباب فشلها تعمق السياسة الاستعمارية “فرق تسد”، والتي عممتها بريطانيا في اوساط السلطنات والقبائل اليمنية في جنوب الوطن.
تولى “كولجان” منصب المقيم السياسي في عدن عام 1854م واستمرت علاقته مع سلطان لحج علي محسن العبدلي، بينما ساءت العلاقة البريطانية مع قبائل “الفضلي” و”العقربي”، وقد دأبت هاتان القبيلتان على مواجهة الوجود البريطاني، وأخذت هذه المقاومة شكل التقطع للقوافل البريطانية والتجارة المرتبطة بها وسلب المؤن الذاهبة إلى عدن، ونظراً لعدم مقدرة المقيم السياسي البريطاني كولجان على تحمل نفقات الحرب على قبيلة العبدلي وقبيلة العقربي، توجهت بريطانيا إلى إقامة علاقات مع القبائل الاخرى المحيطة بعدن مثل “العوالق العليا” و”العوالق السُفلى”، وقد ضَمِنت بريطانيا بذلك عدم انضمام العوالق الى قبيلة الفضلي في مواجهة بريطانيا ومواجهة سُلطان لحج العميل لبريطانيا، كما قامت بريطانيا بعدة عمليات عسكرية على بعض القبائل الآخرى لإجبارها على اتخاذ موقف موال للسلطة الاستعمارية في عدن.
ومع مجيء العام 1869م كانت بريطانيا قد استطاعت ان تخمد مقاومة قبائل العقربي والفضلي، وشراء شبه جزيرة عدن الصغرى من قبيلة العقارب فسيطرت على شبه جزيرة عدن الصغرى وعدن الكبرى، وضمنت استقرار القبائل المجاورة بعقد العديد من المعاهدات مع زعماء القبائل واعطائهم رواتب شهرية، وهكذا أصبحت السلطة الاستعمارية البريطانية في عدن مسيطرة على عدن وبالقرب من المدخل الجنوبي للبحر الاحمر.
المراجع:
الصراع الدولي في البحر الاحمر تأليف آمال ابراهيم محمد
عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر للدكتور فاروق عثمان أباظة
شاهد أيضاً
الفساد.. والإرادة السياسية (7)
أحمد يحيى الديلمي الفساد في مجال القضاء (ب) كان الشهيد المرحوم ابراهيم محمد الحمدي أول ...