احمد الشريف
الحقيقة المرة التي لا تقبل الجدل ويجب أن نقف أمامها طويلاً للتأمل تتمثّل في أن هناك توجهاً إقليمياً ودولياً يمنع اليمنيين من بناء دولتهم القوية الحديثة.. وهو توجّه ليس بالجديد لأن من يعود إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي ويستقرئ ما مرّ به الوطن العربي من أحداث في تلك الفترة سيعرف السبب المباشر الذي جعل قوى إقليمية ودولية لا تسمح ببناء دولة قوية وحديثة في اليمن.
لن نتحدث عن الفترة التي أعقبت قيام ثورة 26سبتمبر وثورة 14 أكتوبر قبل أكثر من نصف قرن وتحوّلت حينها الساحة اليمنية إلى ساحة صراع لتصفية حسابات سياسية بين قوى إقليمية ودولية دفع اليمنيون ثمنها باهظاً ولم يتوقف ذلك الصراع المرير إلا بعد انسحاب القوات المصرية من اليمن وذلك عقب هزيمة يونيو – حزيران عام 1967م وبعد تحقيق المصالحة الوطنية التي أجهضت وهج الثورة والجمهورية وتجمدت عندها أهدافها الستة لتبقى حبراً على ورق إلى يومنا هذا ولم يتبق من الجمهورية إلا اسمها نرفعه كشعار ولكن لم نطبّق دولته على أرض الواقع كما أراد لها أن تكون ثوّار سبتمبر وأكتوبر قبل أن يستولي على ثورتهم ثوّار ما بعد الثورة كما أكد ذلك القاضي عبدالرحمن الإرياني، رحمه الله في مذكراته.. وانتقلت الهيمنة على القرار السياسي اليمني من القيادة المصرية الى القيادة السعودية .
في حرب 6 أكتوبر 1973م التي خاضها الجيشان العربيان المصري والسوري ضد الجيش الصهيوني وعبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف الحصين خلال الساعات الأولى من بدء الحرب كانت القيادة المصرية حينئذٍ قد نسّقت مع القيادتين في شطري اليمن سابقاً لإرسال قوات بحرية مصرية للسيطرة على مدخل مضيق باب المندب الذي تشرف عليه اليمن ومنع أية سفينة متجهة إلى إسرائيل فتم حصارها تماماً وقد شكّل ذلك الحصار ضربة قوية لإسرائيل جعل القادة الصهاينة يومها يتوقفون عن المطالبة بأسراهم من الضباط والجنود وما أكثرهم ويتفرغون لممارسة الضغوطات والتفاوض من أجل فك الحصار المحكم عليهم من مضيق باب المندب .. وبعد فك الحصار جعلت إسرائيل اليمن وباب المندب من أهم قضاياها الاستراتيجية حيث ظلت عينها منصبّة على اليمن تراقبه.. وعندما شعرت أن هناك توجهاً لبناء دولة حقيقية في عهد الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي قامت إسرائيل عام 1976م بتوجيه ضربة جوية إلى باب المندب وهو الأمر الذي جعل الرئيس إبراهيم الحمدي يدعو إلى عقد مؤتمر عاجل للدول المطلة على البحر الأحمر، وقد تم له ذلك حيث عقد المؤتمر في تعز بحضور رؤساء السودان والصومال وشطري اليمن سابقاً وكان هدف هذا المؤتمر هو جعل البحر الأحمر بحيرة عربية والوقوف ضد محاولات الهيمنة للسيطرة على مضيق باب المندب من قبل الدول الاستعمارية خاصة بعد الضربة الجوية الإسرائيلية. وهذا ما عجّل من التخلّص من الرئيسين الشهيدين إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي في أقل من عام كل على حدة بسبب سياستهما ومبادئهما الوطنية والتي اعتبرتها إسرائيل والدول الكبرى تجاوزاً للخطوط الحمراء.
ومن يومها تم اتخاذ قرار خارجي يجعل من اليمن دولة تقودها القوى التقليدية والمشيخية التي ليس لديها مشروع سوى التصارع على مراكز النفوذ ونهب ثروات الشعب اليمني بدليل أن الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح عقب تقاسمه الحكم مع القوى التقليدية في عام 1978م أجهض المشروع الوطني الذي كان يحمله الشهيد إبراهيم الحمدي ولم يواصل البناء على أساسه وأعاد المشائخ ليشاركوه في الحكم الذين كان الشهيد الحمدي قد أبعدهم إلى مناطقهم بهدف إفساح المجال لبناء دولة حديثة بعيدة عنهم.. كما سمح الرئيس الأسبق بحمل السلاح والتجوال به في المدن ليقضي على ذلك المظهر الحضاري الذي كان الرئيس الحمدي قد جعل منه أنموذجاً لأول مرة في حياة اليمنيين حيث لم يكن أي مسؤول يخرج بمرافقين مسلّحين وكان الرئيس الحمدي نفسه يشكّل القدوة لأنه كان يقود سيارته الفلكسواجن بنفسه ولا يوجد معه مرافق واحد.. ولم تكد تمضي فترة قصيرة على الرئيس الأسبق علي صالح في الحكم حتى تم التخلّص من كل شيء ارتبط بفترة حكم الحمدي بما في ذلك قلع الأشجار التي غُرست في عهده بحيث ينساه الناس ولا يتذكرونه.
وهنا تفجّرت المشاكل وضاعت الدولة وخاصة في المناطق الوسطى وحدثت مواجهة عسكرية بين الشطرين انتهت بلقاء الكويت بين الرئيسين حينها علي عبدالله صالح وعبدالفتاح إسماعيل .. ولكن ظلت المناطق الوسطى مشتعلة بفعل تواجد الجبهة الوطنية المعارضة لحكم صالح والمدعومة من الجنوب وقد وجدها الرئيس الأسبق والبطانة المحيطة به فرصة لتشكيل ما سمّي يومها بالجبهة الإسلامية بحجة محاربة المد الشيوعي الآتي من الجنوب حسب زعمهم، ثم تم تقوية الهيئة العليا للمعاهد العلمية ذات التوجه المذهبي ليتخرّج من معاهدها المتشدّدون وشكّلوا البذرة الأولى لما نعانيه اليوم من غلوٍّ وتطرّف مذهبي يكفّر كل طرف الآخر.. ولولا أن الرئيس الأسبق سارع إلى إلغاء هذه المعاهد في عام 2001م عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن وضمّها إلى وزارة التربية والتعليم وإلا لكان اليمن هو البلد الثاني بعد أفغانستان الذي سيتم ضربه وربما احتلاله، وقد اعترف الرئيس الأسبق بهذه الحقيقة في أحد خطاباته وهي موثّقة.
وحين ضاق الشعب اليمني بالفوضى الإدارية التي رافقت حكم اليمن وأصبحت الأزمات هي مصدر السلطات قام الشعب بانتفاضة شعبية عام 2011م تزامناً مع ما سمّي بثورات الربيع العربي وقد نجح في إزاحة ذلك النظام .. لكن لأن اليمن عليه فيتو يمنعه من بناء دولة قوية وحديثة وخشية من أن تنتج هذه الانتفاضة وضعاً جديداً وبروز قوى شابة تفكر في بناء دولة قوية فقد سارعت قوى إقليمية ودولية للالتفاف على هذه الانتفاضة وإخمادها في مهدها بهدف الحفاظ على بقاء القوى التقليدية في الحكم وإن كان بصيغة أخرى حتى تضمن بقاء الوضع في اليمن هشّاً لا ينتج عنه دولة نظام وقانون تنفيذاً لاستمرار المخطط الخارجي الذي يحظر على اليمنيين بناء دولتهم.. ومن هنا يتضح إنه مهما ضحكنا على أنفسنا واعتقدنا أننا قادرون على تغيير الوضع فإن ذلك يبقى أمنية غالية لا يمكن لها أن تتحقق مالم تتوافر إرادة وطنية مستقلة تفرض نفسها بقوة إرادة الشعب وتزيح من طريقها كل المعرقلين الذين يقفون حجر عثرة في طريق بناء يمن جديد ويعتقدون أن الأمور لا تستقيم إلا بهم.. وأملنا كبير جدا في ان تتحقق هذه الأمنية بعد انتهاء العدوان الظالم على اليمن وشعبه العظيم طالما وقد اصبحت الأرض مهيأة والإرادة متوافرة .