جهاد حيدر
كان يفترض أن يشكل مؤتمر “وارسو” على مستوى الطموح الإسرائيلي خياراً بديلاً عن الانكفاء الأميركي عن التورط المباشر لكبح محور المقاومة وعلى رأسه الجمهورية الاسلامية في ايران. بعبارة أخرى كان يفترض أن يشكل منصة ومقدمة لخيارات أكثر عملانية في مواجهة التهديدات المحدقة بالكيان الإسرائيلي. لكن “تل ابيب” وواشنطن فشلتا في جذب أطراف دولية واقليمية، بشكل جاد، من أجل ايجاد طوق دولي محكم ضد ايران، وتحديداً الأطراف الأوروبية (التي شاركت بمستوى تمثيل متدن) وروسيا والصين اضافة إلى تركيا… وهكذا يصح القول أن الفشل هو السمة العامة لجهة الأبعاد الدولية المتصلة بمواجهة ايران بشكل مباشر، وهو ما تؤكده المقارنة بين خارطة المواقف الدولية من ايران في مرحلة ما بعد مؤتمر “وارسو”، ومرحلة ما قبله.
على مستوى البرامج والخطط، لم يصدر عن المؤتمر أي خطط أو برامج محدَّدة حول كيفية مواجهة ايران ونفوذها وامتداداتها الاقليمية. بل إن التباينات بين أطرافه، رغم اشتراكهم في الموقف السلبي من ايران، دفعت إلى تأطيره تحت عنوان “الترويج لمستقبل السلام والامن في الشرق الاوسط”. ولم يكن هذا التعميم المتعمد في عنوانه، مع أن المقصود به ايران، مسألة لغوية، بل تعبير عن التزام بسقف محدد في المواقف والخطوات العملانية. ونتيجة الحرص على تجنب تأجيج الصراع المباشر مع ايران، على الاقل من قبل عدد من الاطراف الدولية والاقليمية.
في المقابل، كان الأمل الإسرائيلي بأن يصدر عن المؤتمر ما يلبي طموحه في مواجهة ما يراه التهديد الأشد خطورة على أمنه القومي. وإلا فإن المواقف التي قيلت سراً وعلناً، هي نفسها التي كانت تقال في سياقات ومناسبات مختلفة. لكن الذي حصل أن نفس هذه الجهات اجتمعت في مكان وزمان واحد وأدلت بمواقفها علنا وسراً خلال المؤتمر، من دون أي برنامج عملي لترجمة العداء لايران ولمحور المقاومة إلى خطة عمل.
وفق هذه المعايير التي تشكل مطلباً وأملاً إسرائيلياً، يعتبر المؤتمر فاشلاً وقاصراً عن تحقيق ما كانت تسعى وتدفع اليه. وتعود أسباب هذا الفشل إلى مجموعة عوامل، على رأسها تراجع الهيمنة الأميركية.
ما بعد “وارسو”… تطبيعياً
ما ينطبق على فشل المؤتمر من أن يشكل محطة متقدمة في مواجهة ايران، وارتقاء في منسوب الضغوط عليها، قد لا يصح على البعد التطبيعي. المؤكد أن المؤتمر شكل خطوة تصاعدية في الاندفاع التطبيعي بين النظام السعودي، ومن يدور معه وفي فلكه من العرب، وبين الكيان الإسرائيلي. ويأتي ارتقاء للمسار الذي بدأه النظام السعودي عبر قنوات وأساليب متعددة في تظهير العلاقات مع “إسرائيل” وتحويله إلى حدث طبيعي. وفق هذا المعيار نحن أمام مستجد يتصل بالدفع نحو الارتقاء بالعلاقات الإسرائيلية ـ السعودية، تحديدا، نحو تحالف علني.. ومن هذه الزاوية نحن أمام خطوة سعودية، بالممارسة العملية، تنطوي على التفاف على القضية الفلسطينية، باتجاه المزيد من الخطوات التطبيعية مع “إسرائيل” من دون أثمان تتصل بالمطالب الفلسطينية حتى بمعايير اتفاق اوسلو، ومشاريع التسوية المطروحة. على هذه الخلفية، فإن ما جرى هو من متطلبات صفقة القرن، التي تراهن “تل ابيب” على أن تصلّبها في ثوابتها سيدفع الاطراف العربية ـ الخليجية، للتخلي حتى عن سقف الشروط المتدني للانفتاح على لكيان الاسرائيلي. وينطلق هذا الرهان من قناعة إسرائيلية بأن المزيد من التشدد الإسرائيلي عادة ما كان يُقابل عربياً بمزيد من التراجع تحت عنوان الواقعية (الانبطاحية).
ما بعد “وارسو”.. انتخابياً
مما يميز “إسرائيل” أن التوظيف الانتخابي لا يستثني قضية دون أخرى، بما فيها التي تتصل بالأمن القومي. مع ذلك، قد يتم الخلط أحيانا بين توظيف حدث ما، وبين كون العامل الانتخابي هو المؤسس للحدث، لكن هذه الاشكالية غير واردة في قضية مؤتمر “وارسو”. لكن ما فعله نتنياهو بخصوص مؤتمر “وارسو”، أنه عمد إلى توظيفه إلى أقصى حد، في تفاصيله ومواقفه وصوره وتسريباته لاعتبارات انتخابية داخلية. خاصة وأن نتنياهو يخوض منافسة تتمحور حول شخصه لمواصلة قيادة الدولة في مواجهة التهديدات والتحديات. ويحاول ايضا أن يؤثر على مسار القضاء من خلال تظهير هذا الدور وتظهير الابعاد الامنية وتحويلها إلى المحور الرئيسي للانتخابات.
وهكذا شكَّل المؤتمر فرصة مثالية بالنسبة لنتنياهو كي يوظفها انتخابيا، وعلى هذه الخلفية تأتي الصور المدروسة والتي تظهر التفافا “عربياً” حوله، في ايحاء بوجود تسليم وتكيّف عربي مع سياساته المتشددة في الموضوع الفلسطيني، وأنه قادر على احداث اختراق في العالم العربي من دون تقديم أية اثمان تتصل بالقضية الفلسطينية.