< من نافلة القول أن سُلعة الحبوب -وبخاصة القمح- يمثل المصدر الرئيس للغذاء العالمي، وقد حرص الغرب الإمبريالي -بالرغم من سيطرته على القطاع الصناعي- على التفرُّد بإنتاجه وتصديره والإمساك -بجدارة- بـ(ترمومتر) أسعاره، لما من شأنه إخضاع جماهير المستهلكين -على مستوى العالم- لقراره، فلا يلبثون أن ينقادوا له بمجرد الإشارة، ومن أجل إبقاء العالم مرهونًا للغرب في الحصول على لقمته يعمل -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- على تجفيف منابع الإنتاج الزراعي على المستوى الفردي والجماعي.
آليات تحكم غير مباشرة
من الآليات غير المباشرة في استهداف البلدان التي تتوافر لها شروط النهضة الزراعية العمل على إشعال القلائل الداخلية وبما يتسبب بأزمة اقتصادية تلجئها إلى الاقتراض من إحدى المؤسستين النقديتين الماسونيتن(البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) اللذين يستبقان في وضع الشروط قبل منح القروض التي يتصدرها شرط خصخصة القطاع الزراعي لتؤول ملكيته إلى أشخاص أو مؤسسات يدين لهما بالولاء، فيُسارع الملاك إلى تخفيض الإنتاج وتحرير الأسعار متسببين بالمزيد من الإفقار وإصابة الاقتصاد الوطني بالمزيد من الدمار، وقد يشترطان -بحسب ما تقتضيه أوضاع بعض البلدان- التوقف الكلي عن الإنتاج الزراعي المحلي بذريعة ارتفاع كلفة الإنتاج من بذر وري وحصاد عن كلفة الاستيراد، وعلى هذا الأساس تُسخِّران نسبة عالية من قروضهما لاستيراد السلع الاستهلاكية بما فيها الغذائية بعد إيقاف إنتاج بدائلها المحلية، فلا يكون لهذه القروض أي مردود أو عائد بقدر تسببه من إغراق ذلك البلد في مستنقع القروض الربوية الباهظة الفوائد، فتصبح في وضع مخيف، ويحصر جُلَّ دخلها القومي في الحصول على الرغيف، فإذا البلدان مرهونة في قراراتها المصيرية لقوى الاستكبار العالمي التي باتت تتحكم بلقمة عيش العالم.
ولعل أهم البلدان وقوعًا في هذا الفخ الماسوني بعض بلدان أمريكا الوسطى ومعظم دول عالمنا العربي، وأبرز مثالين على ذلك:
١- نيكاراغوا التي نجح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تدمير الزراعة فيها من خلال خصخصتها ثم العمل على تحرير أسعار منتجاتها وصولاً بالمجتمع إلى أتون مجاعة محققة.
٢- جمهورية مصر التي كانت قادمة -من خلال وضع استراتيجية للاستغلال الأمثل لمياه النيل- على تنفيذ استراتيجية زراعية كان من شأنها لو نفذت أن تجعلها في مصاف كبار المصدرين، فعادت -بسبب ما مورس من شروط هاتين المؤسستين النقديتين الماسونيتن على العميل السيسي- لتتصدر قائمة كبار المستوردين للقمح الذي يعتبر السلعة الغذائية الرئيسة لمعظم المصريين.
آليات تحكم مباشرة
أما أهم الآليات الإمبريالية غير المباشرة للحدِّ من النشاط الزراعي ومنع إنتاج الحبوب وغيرها من المنتجات التي بإمكانها الوصول بالشعوب إلى اكتفاء ذاتي ما يلي:
١- الأمر المباشر بإيقاف عجلة الإنتاج، وحتى لا تتعرض الأنظمة العميلة أمام شعوبها للإحراج يتم الإيعاز إلى بعض الخبراء الزراعيين المأجورين بالانبراء لتبرير ذلك الإجراء الخطير بحجة ارتفاع كلفة الإنتاج داخل البلاد عن كلفة الاستيراد.
وأبرز مثال على النموذج الباعث على الحرج ما حصل -قبل فترة- في مملكة آل سلول من إيقاف إنتاج القمح بعد كانت قد أنفقت -وعلى عدة سنوات- مبالغ خيالية في عمليات استصلاح الكثير من المناطق الصحراوية حتى أصبحت واحات زراعية ووصلت بالبلاد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي.
٢- عملية الحصار البعيد الأمد كأسلوب من أساليب الإفتقار على غرار ما مورس وما يزال يمارس بكل إمعان على جمهورية السودان المستبعدة -وفقًا للاستراتيجية الأمريكية- من خارطة الاستثمارات الخليجية بالرغم من اعتبارها حجر الزاوية في إحداث اكتفاء ذاتي عربي، وليس هذا فحسب، بل إن خبراء الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي العالمي يعتبرونها -بالنظر إلى سعة أراضيها وخصوبة تربتها ووفرة مياهها- سلة غذاء العالم، ولا يحول دون نهوضها بهذه المهمة ذات الأهمية العالمية سوى شق شبكة طرقات وتوفير بعض الآليات والمعدات، وهذا في مقدور أية دولة خليجية لو حصلت على ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية لتبني هذه الاستراتيجية.
ولكن هيهات أن يسمح الغرب الإمبريالي بحدوث الحدِّ الأدنى من تكامل عربي أو إسلامي، وما دام العالم العربي معتمدًا -بصورة شبه كلية- في الحصول على القمح -باعتباره السلعة الغذائية الأساسية- على المزارع الأمريكية والكندية والاسترالية التي لا تتعدى كونها مقاطعة أمريكية فسيظل مرهونًا بقرارته السيادية للإمبريالية الغربية.