بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
==
خليقٌ بالطبيب والعامل الصحي أن يستشعِر مسؤوليته الإنسانية، وأن يُجَدِّد نيته بأن يكون عمله لله تعالى، أولا وأخيرا، وأن يتحرَّكَ على أساسِ أنه صاحبُ مهمةٍ ورسالةٍ إنسانية، وإسلامية، تُرضي الله تعالى، وتُسعد مخلوقيه، وليس على أساس أن تلك مهنة، يَبغي من ورائها الحصولَ على المقابلِ المادِّي، إن هذا أضمنُ أجرًا، وأحسنُ عاقبة، وأسعدُ حالاً في الدنيا والآخرة.
ثمة نكتة شائعة يتداولُها العاملون الصحّيون والمُسعفون، وهي أن دور عاملي وعاملات الصحة اليوم بمختلف أنواعهم، كانت تتكفَّل به النساءُ في الزمن القديم، وهو أمرٌ ليس بعيدا عن التاريخ، فهذه كتبُ السيرة تذكُر عددًا من الصحابيات بأنهن (كنَّ يُعالجْن الجَرْحى، ويقُمْن على المَرْضى)، وربما كان ذلك الدور هو المسموح به اجتماعيا لمرأة متحفِّزة للعطاء والجهاد في سبيل الله، كما لا يبعُد أن لذلك علاقة أيضا بطبيعتِهن الرقيقة، والتي من المهم أن تحضُرَ في تلك الوضعيات، حيث الجرحى بحاجة إلى القلوب الرحيمة، وليس القلوب الشديدة واللاأبالية.
في وقعة أُحُد هُرِعَتِ الزهراء أمُّ أبيها مع نساءِ أخريات من المدينة إلى أرض المعركة شمال المدينة لمعالجة الجرحى، فعالجت أباها النبي المجاهد، واستطاعت أن توقِف نزيفَ دم وجهه، بعد أن تلقت جبهته الشريفة ضربة من أحد أعلاج الكفار القرشيين، كما يروي ذلك المؤرخ النسابة البلاذري في كتابه أنساب الأشراف، وغيرُه من المؤرخين.
وبحسب عددٍ من المصادر التاريخية فقد جاءت الزهراء هي وأربعَ عشرةَ امرأة إلى أُحُد يحمِلْنَ الطعامَ والشرابَ على ظهورهن، ويسقين الجرحى، ويداوينهم، وإذا عرفنا أنهن جِئْنَ بعد معرفتهن بهزيمة جيش المسلمين وإشاعات مقتلِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحتمالِ هجومِ جيش المشركين على المدينة فإنه يتبيَّن لنا مقدارُ شجاعتهن وثقتهن بالله تعالى، وهن يتقدَّمْن إلى أرضِ المعركة على بُعدِ بضعة كيلوهات شمال المدينة، ولا يَخَفْن من غائلة انحراف جيش المشركين نحو المدينة أو نحو طريقهن.
وممن تذكر كتب السير والتورايخ أنهن تصدّين لمداواة الجرحى: أم عطية الأنصارية، نسيبة بنت الحارث (ت8هـ)، وكانت من كبار نساء الصحابة، بايعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وروَت عنه، وغزت معه سبْعَ غزوات، فكانت تصنع الطعام للمجاهدين، وتداوي جرحاهم، وتقوم على مرضاهم.
ومنهن أمُّ عمارة، نسيبة بنت كعب (ت13هـ)، اشتهرت بالشجاعة، وشهدت بيعة العقبة وأحدا والحديبية وخيبر وحنينا، وكانت تقاتِل وتَسقِي الجَرْحى، بل وجُرِحَتْ يوم (أحد) اثني عشر جرحا، وقُطِعَتْ يدها يوم “اليمامة”.
ومنهن الرميصاء بنت ملحان (ت30هـ)، أم أنس بن مالك، شاركت في الحروب، وكانت يوم “أحد” تسقي العطشى، وتداوي الجرحى.
ومنهن الربيِّع بنت معوز بن الحارث الأنصارية (توفيت 45 هـ)، بايعت الرسول (صلى الله عليه وسلم) بيعة الرضوان، وصحبَتْه في غزواته، فكانت تسقي المجاهدين، وتخدمهم، وتُداوي الجَرْحى، وترد القتلى والجرحى إلى المدينة.
ومما يروَى عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: “العلوم أربعة: الفقهُ للأديان، و الطّبُّ للأبدان، والنّحوُ للّسان، و النّجوم لمعرفة الزّمان”.
وفي تاريخ اليمن كان الطبُّ والتطبيبُ حاضرا ومُزْدهِرا، ويكفي أن الأستاذ الحبشي في كتابه مصادر الفكر الإسلامي في اليمن ذكر 29 مؤلِّفا يمنيا كتبوا وألَّفوا في الطب 35 عَمَلا فكريا، وبالتأكيد لم يحط بجميعهم ذكرا، أما الأطباءُ الذين مارسوه فهم كثير جدا.
بل إن كثيرا من أطباء اليمن كانوا علماء موسوعيين، وقد ضربوا في كل علمٍ وفنٍّ بنصيب وافر، ومنهم على سبيل المثال العلامة الكبير الشيخ لطف الله الغياث (ت1035هـ)، فقد اشتهر في علم اللغة العربية، والصرف، والنحو، والأصول، وغيرها من العلوم الشهيرة، ومع ذلك فقد كان يصفه الإمام القاسم بن محمد (ت1029هـ) بـ(الطبيب الماهر)، أما مؤرّخ اليمن ابن أبي الرجال (ت1092هـ)، فإنه افتتح ترجمته في مطلع البدور بوصفه بـ: “شيخ الشيوخ، وإمام أهل الرسوخ، الحري بأن يسمى أستاذ البشر، والعقل الحادي عشر”.
وكان حكَّام اليمن وعلماؤها يُوصون ويأمرون أولادهم، حتى البنات منهم، بتعلُّم الطب، مثل أي العلوم الأخرى، فهذا الإمام عبدالله بن حمزة، في رسالته (وصية البنات) يوصي بناته قائلا: “وليُعلِّمْنَ مَن طلَب العلم، ويُرْشِدْن مَن تحرَّى الرشاد، ولا يَدَعْنَ ما يمكن من علم الطب بإتقانٍ وبصيرة”. وهناك عدد من سلاطين الرسوليين تُنسَبُ إليهم عددٌ من المؤلَّفات في علمِ الطب، ومع تشكيك بعض المؤرِّخين في حقيقة تأليفهم لها، وأنهم إنما كلّفوا علماء يمنيين بتأليفها، إلا أن ذلك يشير بشكل أو بآخر إلى اهتمام السلاطين بهذا الجانب، وأن علم الطب والتأليف فيه شرف جعل السلاطين يُنافسون في ساحته.
لكن مصيبة الطب في اليمن اليوم تتمثّل في أن مئات الأطباء المشاهير من أبناء اليمن قد غادروا هذه البلاد، واستقطَبَتْهم دولُ الخليج، وأوروبا، وأمريكا، منذ عشرات السنين، وهناك نزيفٌ خطيرٌ للعلماء والأكاديميين والمفكّرين، ونزوعٌ كبير نحو الاغتراب وهجران الوطن، في الوقت الذي يكون فيه الوطن وأبناؤه بحاجة ماسة إلى جهود هؤلاء وعطاءاتهم، وخدماتهم.
عددُ الأطباء اليمنيين الذين برّزوا على مستوى العالَم رقم كبيرٌ، ينذر بفاجعة أصابت اليمن، وهنا أضع سؤالا في آذانِ مسؤولينا ولا سيما وزارة الصحة وكليات ومعاهد التعليم الطبي: هل لديكم خطط لاستعادة هؤلاء الأطباء المشاهير الذين ملأوا سمع العالم وبصرَه ؟
وأنتم تعلمون أن العقل اليمني من أفضل العقول المبدعة على مستوى العالم .. فهل تسمحون لنا يا قومَنا بأن نحلُم بأن تصيرَ اليمنُ إحدى أهمِّ الدول التي يقصُدُها المرضى من العالم للتطبُّبِ فيها، مثل الأردن، ومصر، وألمانيا، والهند اليوم؟ وهل لديكم مانع في أن نصحوَ ذاتَ يوم وقد تحقّق هذا الحلم الجميل؟
لا أظن الأمر مستحيلا ..
نحتاج فقط إلى الإرادة الواعية والشجاعة الكافية والأمانة والإخلاص والعقل الإداري الإبداعي ..
ومع ذلك فإن في اليمن أيضا رجالاً لا يزالون حتى اليوم يرابِطون على أرضهم، ويقاتلون على مختلف جبهاته، وقد وهبوا أنفسهم وأعمارَهم له على حلوه ومره، هؤلاء مَن يجب أن تتوجّه إليهم الرعاية والاهتمام، إنهم أولئك الذين يشاركون في صناعة ملحمة الصمود والثبات والنصر بإذن الله.
في الحقيقة أن مَن يَعمل بإخلاص، ويجدد نيته لله تعالى في سعيه وجهوده وإنجازاته الطبية، وهو يعالج الجرحى والمرضى، فإنه إنما يخوض معركة الجبهة الصحية بجدارةٍ لائقة، وانتصارٍ مشرِّف، والأبطالُ المُسعِفون في أرض المعركة هم طليعة هذه الفئة العظيمة التي نغبَطُها؛ لأنها هي الفئة الأكثر تحصيلا للخيرات، والأكثر سعيا وانطلاقا في مضمار الإنجازات، كيف لا وهم مَن يُكتَبُ لهم أجر إحياء الأنفس، ومن أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا.
لهذا إنه لمن الأهمية بمكان أن يَحْتَسِبَ هؤلاء الأطباءُ والطبيباتُ والصحيون والصحيات جميعا أجْرَهم وثوابهم من الله، فالأوضاعُ السيئة، وحالةُ تجذُّرِ الفساد، واستمرار وجود مسؤولين فاسدين، قد لا تُساعِد على إنصاف المستحقين للإنصاف، ولكن المؤمن الحق هو ذلك الذي يُدرِك أن ما فات البشر ذوي العلم القاصر، فإنه لن يفوت علام الغيوب، ومهما حاول البشر أن يُنصفوا أحدا منهم، ويبالغوا في مكافأته، فإنهم لن يصلوا إلى عشرِ معشارِ ما أعده الله لعباده المحسنين، ولا سيما أولئك الذين يساهمون في خدمة خلق الله، الذين سماهم الحديث بأنهم (عيالُ الله، وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعياله).
وربما كانت لدينا أعدادٌ هائلة من الأطباء ومعلمي الطب والعاملين في الطب، ولكن البعضَ منهم قدّموا صورة سيئة لهذه الشريحة؛ ولا زلْتُ أحتفظ بفاتورة ضرب مغذية لي من إحدى المشافي الخاصة بصنعاء، وقد بلغت كُلْفَتُها (1500ريال)؛ كدليلٍ على سوءِ مَسْلَكِ الطب حين يتحوَّل إلى مسلخ لما بقي فوق عظم المواطن المُتْعَب والمُنْهَك، وحين يتحوَّل إلى بعوضةٍ متوحِّشة لمصِّ ما بقي في العروق بعد الذبح.
أخي الدكتور محمد، تخرّج من كليّة الطب، ولا يزال يَحْمِلُ كمًّا هائلا من المحبة والتقدير لمدرّسيه في تلك الكلية، لكنه لا يزال أيضا يحمل سخطا كبيرا تجاه نموذَج ذلك المدرِّس الذي كان كثيرا ما يتلذذ بخوف طلابه وقلقهم من درجاتهم لديه، ويُوَجِّه لهم الإهانات، والذي كان من المستحيل على طالبٍ ذَكَر أن يحصُل لديه على درجةٍ كاملة.
عزم الدكتور محمد أن يعود لزيارة الكلية، ولسوء الطالع وجد ذلك المدرس وهو يمارس حالته السادية ضد طلابه، وهم يتعطفون أمامه أخلاقا، وإهانة لأنفسهم، فلا يزداد إلا عتوا ونفورا، فما كان من الدكتور محمد إلا أن أفرغ ما بقلبه وذكرياته من آلام في وجه ذلك الديكتاتور الصغير، وفضحه أمام طلابه، والعجيب أن تستمر يمنُ ثورة 21 سبتمبر المجيدة بقبول هذه النماذج العفنة في مقاعد التدريس والتعليم المقدّسة، وكأنه لا يسيلُ نهر من دماء الأبطال العظماء يوميا، للدفاع عن اليمن واليمنيين.
اليمن اليوم أيها المسؤولون تستحق نموذج الطبيب الإنساني النبيل، الذي يسعى دائما إلى نقل المريض من حالة الحزن إلى الفرح، ومن اليأس والإحباط إلى الأمل والسعادة، ومن الخوف إلى الرجاء، وأي طبيبٍ أو صحيٍّ لا يحمل قدرا كافيا من الأخلاق والتعامل الجيِّد مع مرضاه فإنه من المعيب بقاؤه لحظة واحدة، وأشد العيب والعار أن تستمر حكومتنا في إعطائهم تراخيص للعمل.
وإن طبيبا، يستقبِل مرضاه، استقبالَ التيوس لشفار الجزار، وكأنهم قد استحوذوا على نصيب جدِّه من الميراث، وينظُر إليهم بربعِ عين، وبكلماتٍ متثاقلة لا تكاد تخْرُج من مخارجها إلا بشق الأنفس، وبعددٍ قليل من الأسئلة الباهتة، لا يمكن أن يكون طبيبا، بل ولا يمنيا، ولا إنسانيا.
في المقابل يتذكّر الأطباءُ على وجه الخصوص أن لحسن الأخلاق، وللعامل النفسي، أثرا كبيرا على نفسية المريض، تساعدُه على تجاوز مرضه، وشفاء حالته، ومن ذلك ما ذكره صاحب كتاب (مرشد العناية الصحية)، وقد دُعِيَ لمعالجة امرأة كانت تظنُّ أنه قد دهاها من المرض ما أثقلها حمْلُه، ولكنه وجدها مصابةً بالزُّكام فقط، فكلَّفهم أن يقطفوا لها شيئا من البرتقال من بستانِ بيتها، وغادر، لكنَّه ما إن وصل إلى بيته حتى زادت حالتها سُوءًا، ولما عاد إليها مُسرِعا، أمطرته بوابلٍ من التوبيخ والتقريع، بأنه لا يُجيد الطب، ولا يعرفه، وأنه كيف طاوعته نفسه أن يُقرِّر لها قليلا من البرتقال، لعلاج حالتها الشديدة جدا، فما كان منه إلا أن أقر لها بجرمه، واعترف بخطئه، ووعدها بأن يُعطيَها العلاج المناسب.
فأخرج حقنة من حقيبته، وملأها ماءً خالصا بعيدا عن ناظريها، ثم جاء فغرزها في وريدِها، وغادر بيتها، وبعد ساعات، جاءته البشرى بأن تلك المرأة تتعافى ساعة بعد أخرى، ويوما إثر آخر.
في التسعينات صادفْتُ حالة لدى الدكتور أحمد علي المؤيد، وقد جاءه مريضٌ من (الملاحيط)، فسأله عددًا من الأسئلة، وأتذكّر أنه لما سأله عن اسمه، قال المريض بلهجته التهامية: “مُهمّد ألي هسن”، أي (محمد علي حسن)، فتهلَّل وجهُ الدكتور، وعَلَتْه البشاشة، وقال: “ما شاء الله، اسمُك هذا جمع أسماء الطاهرين، يا له من اسم رائع”، ففرح المريض، وانتعشت حالته، ثم استمرَّ على هذا النحو، وهو يوجِّه إليه أسئلة أخرى.
يليقُ باليمن أرض البطولات، ومُنطَلَق المعجزات المباركات، والتي تواجِه اليوم أعتى عدوانٍ متوحِّش، وأفظع حصار فظيع، أطباءٌ وعاملون صحّيون ينطلقون من واجبهم الديني والإنساني والوطني أولا وأخيرا.
ولا أراكم الله مكروها…
Hamoodalahnomi1@gmail.com