عبد الباري عطوان
لخَّصَ الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب السِّيناريو الأهَم الذي سَيكون بمَثابَة فصْل النِّهاية في مُسلسَل جريمة اختفاء، أو اختطاف، الكاتب السعودي جمال خاشقجي بعد دُخولِه قُنصليّة بِلاده في إسطنبول يوم الثلاثاء قبل الماضي، ولا يُوجَد أي دليل يُؤكِّد خُروجه مِنها حَيًّا أو “مُقطَّعًا”.
قبل الحديث عن زُبدَة كلامِه الصَّادِمة بالنَّسبةِ إلينا، وربّما للكَثيرين غيرنا، نَوَد التَّأكيد بأنّه، أي الرئيس الأمريكي، كذَب مرّتين في حديثه إلى قناتِه المُفَضَّلة “فوكس نيوز” الخميس، الأُولى عندما قال أنّ مُحَقِّقين أمريكيين يَعملون مع أنقرة والرياض للتَّحقيق في جريمة اختفاء الخاشقجي، لأنّ السلطات التركية سارَعت بنفي هَذهِ المَزاعِم، وأكّدت أنّها لا يُمكِن أن تسمح لمُحَقِّقين أمريكيين أو غيرهم بالمُشارَكة في التَّحقيقات لأنّ هُناك مُحَقِّيين أتراك أكفّاء، أمّا الثانية، أنّ تَعاطُفه مع الضحيّة كان “بارِدًا” خاليًا مِن أيِّ “حَماسٍ” أو تَعاطُف، مِثلَما كان مُرتَبِكًا في حديثه، مِثل قوله أنّنا نعمل مع تركيا ومع السعوديّة أيضًا (لم نسمع عن أيِّ تحقيقاتٍ سعوديّة حتّى الآن)، وليس هُناك أدلة على هذا الارتباك أو عدم الرَّغبة في القَول بأيِّ شَيء مُفيد أو حاسِم إشارته إلى أنّه “دخل القنصليّة ولا يبدو أنه خرج.. بالتّأكيد لا يبدو أنّه موجود” أي أنّه فسّر الماء بالماء، واكتفَى بتوجيه الدَّعوة إلى خديجة جنكيز خطيبة الخاشقجي لزيارة البيت الأبيض، والتقاط الصُّور أمام المِدفأة الشَّهيرة “وكفَى الله المُؤمنين شَر القِتال”.
***
نعود إلى النُّقطة الأهَم مِحور هذه المقالة، وهي التي تُؤكِّد أنّ إدارة الرئيس تَرتَبِك لا تُريد اتِّخاذ أي إجراء ضِد المملكة العربيّة السعوديّة حتّى لو ثَبُت تورّطها، فالرئيس ترامب قال، وفي المُقابلة نفسها، ونحن ننقُل هُنا حرفيًّا “وقف مبيعات الأسلحة سوف يُؤذينا، فلدينا وظائف، ولدينا الكثير من الأشياء التي تحصل في هذه الدولة، ولدينا دولة تعمل من الناحية الاقتصاديّة أفضل من أيِّ وقتٍ مَضى، وجُزء من ذلك يرجع إلى ما نفعله بأنظمتنا الدفاعيّة.. بصراحة أعتقد أن ذلك سيكون قُرصًا من الصَّعب على بلدنا ابتلاعه”، ووجّه انتقادًا لاذِعًا إلى 22 مُشرِّعًا أمريكيًّا (أعضاء في الكونغرس) وجّهوا رسالةً إليه طالبوا فيها بفرض عُقوبات على السعوديّة تطبيقًا لقانون “ماغنيتسكي” لحُقوق الإنسان، وقال أنّ هؤلاء تسرّعوا في هَذهِ الخُطوة مُحذِّرًا من أنّ هَذهِ المَطالِب تَضُر بالوِلايات المتحدة.
هَذهِ العبارات المُهمّة جدًّا التي وردت في حديث ترامب، تُوحِي بأنّ العَمل الحقيقيّ الجاري حاليًّا يُعطِي الأولويّة للتَّوصُّل إلى “صفقةٍ” سريّةٍ على “أشلاء” الضحيّة، وليس فَكْ طلاسِمها، فهُناك قناة اتّصال أمريكيّة نَشِطَة في هذا المِضمار بين ثلاثة مسؤولين أمريكيين مع الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، هم جون بولتون مًستشار الأمن القومي، وجاريد كوشنر، صِهر الرئيس ترامب ومُستشاره، ومايك بومبيو، وزير الخارجيّة، في الوقت نفسه هُناك قناة اتّصال سريّة تركيّة سعوديّة، وسط أنباء تُفيد بأنّ الحُكومة التركيّة لا تُريد المُواجَهة مع السعوديّة، القُوّة “الإقليميّة الكُبرى”، وتَسعَى للوُصول إاى “حَلٍّ وَسَط” لإنهاء هَذهِ الأزَمَة.
فمَن يُتابِع الصِّحافة التركيّة والقَريبة مِن حِزب “العدالة والتنمية” الحاكِم، يَجِدها أكثَر هُدوءًا في تناولها للجريمة وتطوّراتها في اليومين الماضِيين، على عكس الصحافة الأمريكيّة، وكان لافِتًا أنّ صحيفة “الصباح” التركيّة أكّدت في عددها الصادر اليوم أنّه “لم يتم رؤية أي أشلاء بشريّة عند مُرور حقائِب الفريق الأمني السعودي أمام كاميرات الفَحص الأمني قبل مُغادَرتهم مطار إسطنبول الدولي على مَتن طائِرتين خاصّتين، الأمر الذي إذا صح، فإنّه يَخلِط الكَثير مِن الأوراق، ويَنسِف مُسلَّمات، حول مَسألة “التَّقطيع” الرائِجة.
شبكة “NBC” الأمريكيّة كَشَفت اليوم الخميس نَقْلًا عن ثلاثة مصادر مُطّلعة على التَّحقيقات التركيّة أنّ أنقرة أبلَغت واشنطن أن لديها أجهزة تَنصُّت داخِل مقر القنصليّة السعوديّة في إسطنبول وتسجيلات صوتيّة تُؤكِّد قتل خاشقجي على يَد فريقٍ أمنيٍّ سعوديّ مُتخَصِّص وَصَلَ مِن الرياض لتَنفيذ المُهِمّة، وذكرت تقارير أُخرَى أنّ المُخابرات التركيّة فَحَصَت مِياه المَجاري، وأنابيب الصَّرف الصِّحّي للقُنصليّة السعوديّة، وعَثَرت على أدلَّةٍ جنائيّةٍ ربّما تَكون دِماء.
الأهَم من ذلك أنّ المُخابرات التركيّة التي نَشَرت أسماء وصُور هذا الفَريق الأمنيّ، أكّدت أنّ أبرزهم خبير تشريح ويَعمَل طَبيبًا شَرعيًّا في وزارة الداخليّة السعوديّة، وقد قارَنَت بين صُورة على مَوقِعه في “الفيسبوك” وتِلك التي جرى التقاطها عند دُخول الفريق للقُنصليّة والخُروج منها، فوَجدت الصُّورتين مُتطابِقَتين، وقد أثارَ وجود هذا الطَّبيب العَديد من علاماتِ الاستفهام حول دَورِه، فهَل كانَ للتَّشريح، أم للتَّقطيع، أم لحَقن الخاشقجي بحُقنَةِ تَخديرٍ تَمهيدًا لنَقلِه، مِثل أُمَراء ومُعارِضين آخَرين إلى الرِّياض؟
***
خُلاصَة القَول أنّ هُناك احتمالين لا ثالِث لهما حتّى كِتابَة هَذهِ السُّطور:
ـ الأوّل: أن السيد الخاشقجي قُتِل فِعلًا، ولكن مصير جُثمانُه ومَكانُه ما زالَ مَجْهولًا.
ـ الثّاني: أن يكون جرى اختطافه حيًّا وتم نقله إلى الرياض تمامًا مِثلَما حدث مع أُمَراء ومُعارِضين سُعوديّين، بعضهم جَرى تصفيته، والبَعض الآخر مَوضوعٌ تَحتَ الإقامةِ الجَبريّة.
صَديقٌ مُقرَّبٌ جِدًّا للزميل الخاشقجي، ويَعرِف أسراره بِما فيها الشخصيّة جِدًّا، أكّد لنا أنّ السَّبب الرئيسيّ الذي جَعل المُخابرات السعوديّة تُقَرِّر تصفيته جَسَديًّا، هو رغبته في تأسيس مُنظَّمة حُقوق إنسان باسم “الفجر” يكون أمينًا عامًّا لها، وتَضُم عِدّة شخصيّات عربيّة وسعوديّة مُعارِضة يكون مقرّها إسطنبول، تحت رِعايةٍ رسميّةٍ تركيّةٍ عُليَا.
السُّلُطات السعوديّة تُراهِن على عُنصُر الوقت اعتقادًا مِنها أنّه كُلّما طالت المُدّة والتَّحقيقات، تتراجَع درجة الاهتمام العالميّ والعربيّ والإعلاميّ بهَذهِ الجَريمة، ويبدو أنّ الرئيس ترامب ومُستشاريه يُؤيِّدون هذا الرِّهان ويُشَجِّعون عليه، ويَستَندون في ذَلِك إلى أنّ الغرب يبحث عن مصالحه، فألمانيا اعتذرت للسعوديّة، وإسبانيا تراجَعت عن قرارها بوقف بيع أسلحة للرياض احتجاجًا على حرب اليمن، وكندا على وَشكِ السَّير على الطريق نفسه، بعد اعتذار سفيرها في الرياض عن تَدخُّلِ حُكومَته في أُمورٍ سعوديّةٍ داخليّةٍ مِن بينها المُطالبة بالإفراجِ عَن مُعتَقلات ومُعتَقلي رأي.
باخْتِصارٍ شديد: الصَّفَقات تتقدّم على حُقوق الإنسان لدَى مُعظَم الحُكومات الغَربيّة، إن لم يَكُن كلها، وإن كانت هُناك استثناءات فهِي نادِرةٌ جِدًّا، ومن يقول غير ذلك لا يَعرِف الحُكومات الغربيّة، والأمريكيّة مِنها على وَجهِ الخُصوص، وراجِعوا الفَقَرة التي ورَدت في حديثِ ترامب التي تُؤكِّد هَذهِ الحَقيقة إذا كُنتُم مُشَكِّكين.. والأيّام بَيْنَنَا.
(رأي اليوم)