قرار الولايات المتحدة الامريكية الذي صدر امس الثلاثاء بإرجاء البت في قرار رفع العقوبات بشكل دائم عن السودان لم يكن مفاجئا، لان المملكة العربية السعودية التي استخدمت نفوذها واقنعت الإدارة الامريكية برفع العقوبات لستة اشهر كخطوة لالغائها نهائيا، ارادت معاقبة الرئيس السوداني عمر البشير لرفضه الإذعان لمطالبها بقطع العلاقات كليا مع دولة قطر.
الرئيس البشير فاجأ الكثير من اعدائه قبل أصدقائه عندما قطع علاقات بلاده مع ايران كليا، واتهمها بنشر “التشيع″ في السودان، كتبرير لانضمامه بالكامل الى المحور السعودي وحروبه في اليمن، وارسال قوات للقتال تحت ظلال اجنحة طائرات “عاصفة الحزم”.
الازمة القطرية المشتعلة نيرانها وضعت الرئيس السوداني امام مأزق كبير، فعلاقاته مع قطر وحليفها التركي اكثر من جيدة، وتستند الى تحالف طابعه مساندة حركة “الاخوان المسلمين” التي تحتضن السودان بعض قيادتها اسوة بالشركاء القطريين والأتراك، وفي الجانب الآخر استطاع نسج تحالف قوي مع السعودية التي قدمت له الدعم المالي، واوفت بتعهداتها في استخدام نفوذها وعضلاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع واشنطن، ولعب دور المحامي الناجح المدافع عن السودان، وضرورة رفع العقوبات المفروضة عليه.
الرئيس البشير اختار ان يمسك العصا من المنتصف، وان يعلن حياده في الازمة الخليجية، وتطوع كعادة البعض من اقرانه في هذا المضمار، بالقيام بدور وساطة بين أصدقائه القطريين وخصومهم السعوديين والاماراتيين والمصريين، ولكن وساطته، مثل موقفه، قوبل بالرفض المطلق، لان السعودية تتبنى عقيدة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوس الابن “من ليس معنا فهو ضدنا”.
إدارة ترامب لم ترجيء قرارها برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان بسبب سجله السيء في مجال حقوق الانسان، فكل حلفائها الخليجيين يتشاركون مع السودان في التهمة نفسها، ولا نبالغ اذا قلنا ان سجل بعضهم، اكثر سوءا، ومن المؤكد ان هذا الارجاء جاء عقابا سعوديا على موقفه المساند لقطر تحت عنوان الحياد.
العقوبات السعودية على السودان، التي ربما تكون اكثر شراسة من الامريكية، تتبلور بشكل متسارع، فالفريق طه عثمان الحسين، مدير مكتب الرئيس البشير السابق، الذي وقف خلف قرار السودان بإرسال ثلاثة آلاف جندي للقتال في اليمن تحت مظلة التحالف السعودي، كوفيء بمنحه الجنسية السعودية، وتعيينه مستشارا للامير محمد بن سلمان، ولي العهد للشؤون الافريقية، وكان عضوا في الوفد السعودي الذي حضر قمة الاتحاد الافريقي الأسبوع الماضي في اديس ابابا، وكانت الرسالة وراء هذا التعيين الى الرئيس البشير واضحة، انت تفصله من جميع مناصبه، ونحن نتبناه، وعليك تحمل العواقب.
لا نعرف ما هي الخطوة الانتقامية السعودية المقبلة من الرئيس البشير ونظامه، فهل ستتخذ الاجراء نفسه الذي اتخذته ضد قطر في بداية الازمة، أي مطالبته بفك عضويته في التحالف العربي في حرب اليمن، وسحب قواته جميعها التي تقاتل هناك؟ وهل ستقاتل هذه القوات بالحماس نفسه في حال تجنبت السعودية اتخاذ قرار “الابعاد” لها من جبهة القتال، لوجود نقص في القوات المقاتلة على الأرض؟
الرئيس البشير بات يجد نفسه امام مأزق صعب جدا، ربما الأخطر في عمر رئاسته الذي استمر قرابة الثلاثين عاما، فعلاقاته سيئة مع مصر، وتزداد سوءا مع السعودية وبالتالي مع دولتي الامارات والبحرين، وبات مضطرا للعودة الى المحور الإيراني الذي هجره بطريقة فظة قبل ثلاثة أعوام، فأي خيار سيتخذه الرئيس في نهاية المطاف.
“افتتاحية راي اليوم”