المُظاهرات المليونية الضخمة التي قادها السيد كمال كيليتشدارأوغلو زعيم المعارضة والحزب الجمهوري التركي من أنقرة حتى إسطنبول مشيًا على الأقدام، احتجاجًا على اعتقال نائب من الحزب، تُشكّل إنذارًا قويًّا للرئيس رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعّمه.
المُظاهرات المليونية كانت طِوال العقدين الماضيين تقريبًا حِكرًا على الإسلاميين، وحزب العدالة والتنمية الحاكم على وجه الخصوص، ولكن أن يكسر الحزب الجمهوري وزعيمه هذا الاحتكار فهذا ليس دليلاً على قوّة المعارضة بقدر ما هو دليل على ضعف الحزب الحاكم، وبدء تدهور شعبيته، وتزايد الغضب الشعبي من تعاظم إجراءاته القمعية منذ إعلان حالة الطوارىء قبل عام عقب إنقلاب عسكري فاشل جرى توجيه أصابع الاتهام إلى الداعية التركي فتح الله غولن بالوقوف خلفه.
عندما تعتقل الحكومة 50 ألفًا، وتفصل 150 ألفًا آخرين بينهم قضاة وأكاديميون، ومدرسون، وضباط أمن وجيش، وصحافيون بتهمة تأييد الإنقلاب، وتُغلق عشرات الصحف ومحطات التلفزة، فإن عليها أن تتوقّع ردود فعل غاضبة في بلد تترسَخ فيه الديمقراطية والحريات، وتتراجع فيه الطفرة الاقتصادية، وتتدهور علاقاته مع جميع دول الجوار تقريبًا.
المُتظاهرون حرصوا أن تكون احتجاجاتهم سلمية، يرفعون خلالها علم تركيا، ويردّدون كلمة واحدة تصدّرت لافتاتهم وهي “عدالة”، شعارهم المُوحّد، الأمر الذي ينطوي على معانٍ كثيرة حول غيابها، أي العدالة، في ظل حملات الاعتقال ومُصادرة الحريّات المُتسارعة في البلاد.
السيد كيليتشدار، زعيم المعارضة، كان مُصيبًا في اعتقادنا عندما تعهّد في كلمته أمام الحشود “بكسر جدران الخوف”، واتهم السلطة التنفيذية بالسيطرة على السلطة التشريعية، فقيم العدالة والديمقراطية التي كانت العمود الفقري للنظام السياسي التركي تراجعت في السنوات الأخيرة، وتقرّر ألمانيا أكبر شريك تجاري في أوروبا سحب قوّاتها من قاعدة إنجرليك الجويّة ونقلها إلى الأردن.
هذه المُظاهرات المليونية جاءت في التوقيت القاتل بالنسبة إلى الرئيس أردوغان، وفي وقت يضيق فيه الخناق على حكومته وحزبه في العراق، وسورية، والاتحاد الأوروبي، والأزمة الخليجية، وتتراجع فيه معدلات التنمية الاقتصادية، وقيمة الليرة التركية.
لا نعتقد أن السيد أردوغان سيكون سعيدًا جدًّا باستيلاء الجيش العراقي على مدينة الموصل، وتقدّم خصومه الأكراد نحو إخراج “الدولة الإسلامية” من الرقة ودير الزور، وبروز قوة الحشد الشعبي العراقي، لأن الخطوة المُقبلة قد تكون المُطالبة بسحب قوّاته من قاعدة بعشيقة قرب الموصل.
الرئيس أردوغان كان ذكيًّا في استيعابه معاني هذه المسيرة التي فوجيء بها حتمًا، مثلما فوجيء بضخامتها، قائدها وأنصارها أيضًا، وتوفيره أي الرئيس أردوغان، الحماية الأمنية لها، في انحناءه ديمقراطية تُحسب له، وتُؤكّد بعد نظره، ولكن مثلما قال السيد كيليتشدار أن هذه المسيرة ليست سوى انطلاقةً جديدة للمعارضة، ولهذا نأمل أن تكون أيضًا بداية مراجعات قوية وجدية لحزب العدالة والتنمية لكل السياسات الخاطئة التي أدت إلى نهوض المعارضة الضعيفة من كبوتها، مقابل ترهّل الحزب الحاكم، وتراجع شعبيته ليس داخل تركيا فقط، وإنما خارجها أيضًا، ولأن السيد أردوغان وقادة حزبه يدركون جيّدًا تلك السياسات، وفي سورية خاصّة.
“رأي اليوم”