لا تحسد السعودية على موقفها الآخذ في التعقد أكثر فأكثر، منذ ما يزيد على عام. كأن “المُلك” الذي بناه الأولون، بدأ بالتخلخل بسرعة تفوق المتوقع.
على مدى تسعين عاماً من عمر هذا النظام، لا يمكن أن تعثر على مرحلة أشد قتامة وأرثى حالاً بالمقارنة مع واقع اليوم.
ثمة مفاصل حساسة مرت بها الرياض من قبل، هذا صحيح. حصل ذلك مثلاً إبان غزو عراق صدام للكويت. وحصل أيضاً في محطات الحرب الباردة وتصارع النفوذ مع مصر عبد الناصر، والذي بلغ ذروته في حرب اليمن في ستينات القرن الماضي.
لكن إذا ما تمعنا بأحداث الماضي ومجريات المرحلة الحالية، سنخلص إلى فارق رئيس يفسر كيف أنه لا مجال للمقارنة بين أي فترة زمنية تخللتها أزمات كبرى وبين كل ما نشاهده هذه الأيام. الفيصل في ذلك أن عارضين في غاية الخطورة يحفران عميقاً في استقرار النظام السعودي ومكانته وقوته، ويسيران معاً بالتوازي في نفس الوقت.
الأول، هو تجرد الرياض من نقاط قوتها شيئاً فشيئاً، سواء لناحية الإقتدار الإقتصادي والمالي، أو لجهة التأثير السياسي والأيديولوجي وشبكة النفوذ والتحالفات.
الثاني، تجمع الأزمات من كل حدب وصوب، وتواليها على المملكة، بصورة “عنقودية” مركبة. فلو سئل أي مراقب عن الأزمة التي تواجه السعودية الآن، لما استطاع أن يقدم إجابة يتيمة، يلاحظ أن كل أزمة لا تقل جسامة عن الأخرى، وتشكل كل واحدة من هذه المعضلات تحدياً قائماً بذاته. بعبارة أبسط: المشكلات الآن بالجملة لا بالمفرق.
سياسياً
لم تزل السعودية تسعى جاهدة، منذ ست سنوات، لتجبّ عنها تداعيات الإنتفاضات في البلدان العربية، وموجة التغيير العارمة التي طاولت الأنظمة الحليفة لها. تكفلت الرياض، منذ اليوم الأول حين استضافت الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، أن تحمل راية الثورات المضادة، وأن تكافح رياح التغيير أو تبدل مسارها، أو على الأقل أن تحد من آثارها مهما أمكن. نجح الأمر بداية في مصر، بشكل أو بآخر، ونجح بنسبة أقل في اليمن، ونجح خلط الأوراق عبر تفجير الساحتين العراقية والسورية في سبيل تحقيق “توازن الفوضى” إقليمياً. مع أن الكلفة كانت كبيرة على الرياض، إلا أن النتائج لم تكن كما تشتهي سفن المشيخة الوهابية. ولم تكن البداية كالخواتيم، تماماً كحال معركة أسعار النفط.
بعد جردة ست سنوات، نرى كيف أن السعودية لم تعد لاعباً حقيقياً في الساحة السورية (لا أحد يسأل أين السعودية في مؤتمر أستانة!). اليمن، خرج نهائياً من دائرة الإحتواء والوصاية قبل أن تتحول “الحديقة الخلفية” إلى محرقة للجنون السعودي، الباحث عن استعادة الهيبة وزمام المبادرة عبر أول تدخل عسكري مباشر له. حتى القاهرة، لم تستطع أن تصبر أكثر في الخندق السعودي، وسرعان ما تفجرت الخلافات بين الجانبين. خلافات تزداد يوماً بعد آخر لتلامس خط اللاعودة مع توقف الإمداد النفطي السعودي لمصر. كل ذلك مع عجز السعودية عن إخماد انتفاضة الشعب البحريني في الجزيرة الخليجية المجاورة.
ماذا تبقى للسعودية؟ بالتأكيد لا مجال لاحتساب الجوار الخليجي في المعادلة، حيث المشيخات التي تقف كل واحدة منها خلف مصالحها وأجنداتها الخاصة، بموازاة التناقضات وحالة التنافس المتجذرة، ولاسيما مع كل من قطر والإمارات، فضلاً عن سلطنة عمان التي حسمت أمرها بأن تنأى بنفسها عن المسار السعودي. لم يتبق أحد سوى النظام البحريني عملياً، وإن شاءت الرياض فبإمكانها أن تضيف إليه النظامين السوداني والأردني، والأخير دخل مرحلة “عدم اليقين” في التحالف مع السعوديين، بعد أن بدأت بوادر أزماته الاقتصادية تظهر إلى العلن، في ظل العجز السعودي عن تلبية مطالبه.
مع إيران، السلة خالية تماماً من أي انتصار. لا شيء من الكلام عن “كسر النفوذ” الإيراني في المنطقة عرف سبيله إلى التحقق، لا في ملف الاتفاق النووي، ولا على صعيد حلفاء طهران في دول المنطقة. العزلة التي أملت السعودية في فرضها على الضفة الشرقية للخليج كأنها ترتد بصورة عكسية تماماً. وها هي مؤخراً ترضخ في معركة النفط، التي ابتدأتها السعودية، وتهرول لتخفيض الانتاج قابلة بشروط الإيرانيين.
دولياً، ليس ثمة ما يبشر بأن تكون الإدارة الأميركية الجديدة مرضية أكثر من سلفها. بل على النقيض تماماً، جل المؤشرات تدلل على أن دونالد ترامب، ومعه فريقه الجديد، لا يحمل هوامش ومساحات للالتقاء مع الرياض. إلا أن النظام السعودي يستخدم كل ما توفر لتجنب السيناريوهات الأكثر قتامة، ومن بينها جملة الرسائل الإيجابية التي يبعث بها كل من وزير الخارجية عادل الجبير، ووزير الطاقة، خالد الفالح.
إقتصادياً
ما لم يحسب له حساباً، لا صديق ولا عدو، هو أن يحط التقشف رحاله في بلاد الطفرة النفطية بهذه الصورة المفاجئة. وجه المملكة تبدل تماماً. تغيرت الأحوال عما كانت عليه قبل سنوات بصورة دراماتيكية. عشرات المليارات التي خسرتها الرياض على مدار عامين من انهيار أسعار النفط، أمر لا يزال يرخي بظلاله على المفاصل الاقتصادية للبلاد، فيما تتخبط الحكومة طلباً لما تسد به هذا النزف، ولم تجد سبيلاً إلى ذلك سوى جيوب المواطنين، وهو أخطر ما في الأمر.
والحال اليوم أن الرياض ترى نفسها ملزمة بتقديم “الرشاوى” لثلاث جهات، ضماناً لاستقرارها والسكوت عن نظامها: القوة الغربية، على رأسها واشنطن، والجهات الإقليمية الحليفة خصوصاً في العالم العربي، وثالثاً لشريحة واسعة من شعبها بغية تجنب السخط الداخلي. ليس ثمة ما يثبت قدرة السعودية الفعلية على الاستمرار بالزخم السابق في “ملئ الجيوب” مقابل غض الطرف عن مشروعها واستقرار نظامها، خاصة أن النتائج المرجوة من تخفيض إنتاج النفط لن تؤتي أكلها مبكراً وفق كل الخبراء. وفوق ذلك، استنزاف مالي وعسكري في اليمن، تتجرعه السعودية في مغامرتها خلف الحد الجنوبي، حيث المستنقع الذي ينال لا من آخر أوراق القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية فحسب، بل وحتى من هيبة دولة أرادت بأول حرب فعلية لها أن تصنع مجداً لبعض أمرائها، وإذا بها تستحيل نموذجاً للهشاشة والتقهقر والضعف.
في المحصلة، ولكل ما تقدم من شواهد، ولاسيما الواقع الاقتصادي المأزوم والمرشح أن يبلغ ذروته في الأشهر المقبلة، يشكل عام 2017 الحافة الأخيرة أمام هاوية آتية لا محالة، في حال ظلت سياسات المكابرة والعناد مستحكمة بأصحاب القرار في قصور الرياض وجدة.
أحمد قاسم