«كان شجاعاً صادقاً، فاستقبل الحياة الجديدة بإرادة متوثبة، وعقل شغوف بالحق، ولم يكن من الهازئين الماجنين، وثابَ إلى مُثله العليا آمناً مطمئناً، ممتلئاً حماساً وقوة، وشغفاً بالإصلاح الاجتماعي، وحلماً بالجنة الأرضية»، العبارات التي استخدمها الروائي الراحل نجيب محفوظ في وصف «علي طه» بطل روايته «القاهرة الجديدة» (1945)، تبدو مناسبة للتعبير عن مسيرة الصحافي والروائي المصري إبراهيم عيسى (1965)، مؤلف رواية «مولانا» المقتبس عنها الفيلم.
كعادة أعمال عيسى ــ الصحافية والتلفزيونية والروائية ـ التي تثير حالة من الجدل، أشعل شريط «مولانا» جدلاً منذ بدء عرضه مطلع الشهر الجاري. طالبت جهات عدّة بمنعه ومصادرته، أبرزها اللجنة الدينية في مجلس النواب المصري وعدد من الأئمة الأزهرية وشيوخ الدعوة السلفية.
“الأخبار اللبنانية” التقت عيسى لتسأله عن سبب كل هذا الانزعاج من عمل صدر في رواية عام 2012 ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية عام 2013، ولم يثر وقتها كل هذه الضجة.
أجاب: «ابحث عن الجمهور الأوسع. كلما وصل العمل إلى جمهور أكبر، كان خطره على التيارات الرجعية والمحافظة أكبر بالضرورة. الرواية طُبعت في 15 طبعة، أيّ ما يقارب 75 ألف نسخة ومثلها تقريباً نسخ مزورة، بإجمالي يقترب من 150 ألف إصدار، بينما يشاهد الملايين الفيلم، ناهيك عن تأثير الصورة الذي يفوق كثيراً أثر الكتابة. التقليديون والمتشددون قد يسمحون لك بالبقاء في مقالاتك ودواوينك ورواياتك، لكن ممنوع عليك الوسائط الفنية الجماهيرية».
وأضاف: «التخوف جاء من استخدام السينما كسلاح في مواجهة التسلف والوهبنة، وأداة لنشر ثقافة التسامح، ووصول الأفكار التقدمية إلى الشارع المصري. لم نكن قادرين قبلاً على الوصول بها إلى الناس. لذا، يمارس التكفيريون الجنون بانتقاد عمل لم يشاهدوه، لأنهم يخشون دخول الفن في معركة التنوير».
هذه المعركة يخوضها عيسى منذ أن بدأ مشوار الصحافة قبل 33 عاماً، لكن في السنوات الأخيرة، تراجع دور المثقفين والأكاديميين ليتصدّر الصحافيون مشهد الدفاع عن التنوير.
حالة تستدعي البحث عن دور المثقف غير الصحافي وعن صمت كثيرين منهم، وترك «الجورنالجية» وحدهم يواجهون غول التطرف، ويدفعون ثمن مواقفهم.
وبالنسبة إلى عيسى، يقول «طوال 33 سنة، أوقفوا لي 11 جريدة وتسعة برامج آخرها «مع إبراهيم عيسى» مطلع العام الحالي، وصدرت ضدي أربع أحكام، وصُودر لي ثلاثة كتب هي «مقتل الرجل الكبير» الذيّ ظلّ مصادراً من نظام حسني مبارك من 1999 إلى 2006، ورواية «العراة» التي احتجزت لعامين، إلى جانب كتاب «الجنس وعلماء الإسلام». وخارج مصر، لا تزال الكويت تمنع «رحلة الدم»».
عدنا بالحديث إلى «مولانا»، لنسأل رئيس التحرير الأسبق لجريدة «الدستور»: هل كنت تتوقع هذا النجاح لتجربتك السينمائية الأولى؟ يجيب: «هي الأولى إنتاجياً وتنفيذاً، لكن لديّ تجارب سينمائية «مجهضة» قاربت تسعة سيناريوهات، منها أربعة أعمال مع المخرجة ساندرا نشأت، لكنها لم تبصر النور.
كان رهان «مولانا» على كسر نمطية السوق السينمائية، ولم نبال بتخوفات خسائر الموسم الشتوي، وحققنا حتى الآن أرباحاً وصلت إلى 11 مليون جنيه (600 ألف دولار أميركي)، ليعيد جمهور العائلة المصرية إلى دور العرض».
وعمّا يكشف عنه نجاح فيلم يطرح رؤى تقدمية، يعلّق عيسى: «يكشف تلقي الجمهور للعمل عن نتيجة لا بد من أن يتوقف أمامها علماء الاجتماع، ومفادها أنّ الشارع المصريّ ليس وهابياً، ولا يزال على هواه الوسطيّ، ويؤمن في داخله بالتسامح والتعايش، لكن فوق الهوى الإنساني، هناك تراب و«عفرة» سلفية، علينا إزاحتها لاسترداد عافية المجتمع الذي يبدو أصولياً شكلاً، لكنه يتقبل أن يدفع تذكرة ليشاهد فيلماً يقول إنّ الجنة ليست حكراً على المسلمين، وأنّ لا شيعة ولا سنة، فالإسلام دين ونقطة.
ورجل الدين التلفزيوني يخدم المنتج والمعلن والجمهور والنظام السياسي، ولو وجد متسعاً يرضي ربنا «يبقى كويس»! بالتالي، فالتصفيق في نهاية العرض موجّه بالأساس إلى الرسالة الأساسية التي يحملها، حين يطيح حاتم الشناوي بالميكروفونات والإعلام، مؤمناً أنه كي يظلّ وجود السلطة، لا بد من بقاء العبيد». وعن هدف «مولانا»، يقول: «ينتصر الشريط للعقل أولاً وقبل كل شيء، ويقدم أزهرياً أشعرياً ماتريدياً (نسبة إلى الماتريدية) لكنه ينطلق من رؤى المعتزلة، وينتصر لها في واقع يسيطر فيه النقل والعنعنة، وتتقلص مساحات التفكير، ويواجه الأبطال الإقصاء ونفي الآخر، لكننا لم نتناول أي مسألة دينية في الرواية أو الفيلم إلا بالرجوع إلى المصادر والأسانيد «السُّنية»، وأقول السنية قاصداً. كما يؤكد أنّ لا تعايش بين تيار عموده الفقري التكفير، وآخر يقف ضد الطائفية والمذهبية. لذا علينا النظر إلى أنّ نجاح الفيلم أوجع السلفية المباشرة، والسلفيين المتنكرين كأعضاء اللجنة الدينية في البرلمان، الوجه الأصولي المتقنع بالمدنية، ومن جهتنا مستمرون في المعركة وبأدوات الفن».