ارتبط أمن مصر باليمن منذ غابر الزمن، وظلت العلاقة حاضرة ومتميزة منذ أيام الفراعنة، فلم يكن الترابط اليمني المصري له بعد اقتصادي بحت بل كانت له ابعاد اجتماعية وسياسية واستراتيجية أيضاً كون اليمن تمثل خط الدفاع الأول للأمن المائي لمصر سواءً فيما يتعلق بأمن الملاحة البحرية عبر باب المندب الى قناة السويس أو بمكانة اليمن القريبة من منابع نهر النيل.. ولهذا لا عجب أن يستقر اليمنيون في مصر ويحلون في منطقة الصعيد وغيرها كأبناء أرض الكنانة..
هذه الخصوصية في العلاقة تعززت في عهد الرئيس عبدالناصر فقد امتزج الدم اليمني بالدم المصري في معركة الدفاع عن الثورة والجمهورية، فلم يضحّ الشعب المصري بالآلاف من ابنائه الضباط والجنود في اليمن عبثاً.. وإنما من أجل الدفاع عن مصالح شعبين شقيقين والتصدي لأي عدوان خارجي قد تتعرض له اليمن لأنه يمثل خطراً على أمن واستقرار مصر أيضاً.. وتتجلى هذه الحقيقة في الدور الذي لعبه اليمن في معركة الأمة ضد الكيان الصهيوني من خلال التحكم بمضيق باب المندب والحيلولة دون تواجد القوات الاسرائيلية في هذا الممر الحيوي المهم.
ومنذ اشتعال حرب المياه التي أججتها اسرائيل في المنطقة بدأ الخطر يتهدد مصر بعد أن سعت اسرائيل الى استخدام مياه النيل كسلاح لإضعاف مصر ومحاولة تركيعها عبر تغلغلها في اثيوبيا.. هذه المعركة لم تتوقف منذ بداية المواجهة العربية الاسرائيلية.
اليوم وبعد أن تخلت مصر عن اليمن وفتحت الطريق أمام دول الخليج لتعبث بأمنها القومي، وشاركت في قتل الشعب اليمني وتدمير مقدراته والقضاء على قوته العسكرية والأمنية ضمن تحالف العدوان الذي تقوده السعودية، ها هي مصر تجد نفسها »الثور« التالي بعد أن دمرت جزءاً من قوتها وسلمت متاريسها الدفاعية لأعدائها.
فها هم المسئولون الخليجيون أصبحوا يحجون الى أديس أبابا يومياً ليس حباً في أثيوبيا أو جيبوتي أو اريتريا ولكن حب الانتقام من مصر هو الذي دفعهم لذلك، وجهاراً ينفقون الملايين بعد أن حرموا مصر، التي هي بأمس الحاجة الى مساعدات السعودية وقطر والامارات لكن هدفهم قتل شعب مصر عطشاً وجوعاً، ومن أجل ذلك يخوضون معركة قذرة ضد مصر بدلاً عن اسرائيل.
وقعت الثلاثاء الماضي قطر مع إثيوبيا 11 اتفاقية تعاون، على هامش زيارة وزير الخارجية القطرى، للعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وتنوعت الاتفاقيات لتشمل جميع القطاعات، كما عقد وزيرا خارجية قطر وإثيوبيا محادثات، بدأت بجلسة مغلقة اقتصرت على الوزيرين فقط، ثم تحولت إلى جلسة موسعة بعد انضمام أعضاء وفدي البلدين إليها، كما التقى الوزير القطري الرئيس الإثيوبي، ورئيس الوزراء.
ولم تتوقف المفاجآت عند مثل هذه الاجتماعات المغلقة بل ان وزير الخارجية القطري دعا نظيره الإثيوبي الى زيارة الدوحة، لوضع الترتيبات النهائية لزيارة مرتقبة لأمير قطر، إلى إثيوبيا.
التقارب القطري الاثيوبي جاء تأسيساً للتقارب السعودي الاثيوبي، على خلفية تفاقم أزمة البلدين مع مصر، ما يمثل بداية لحرب طاحنة تستهدف تدمير وتفكيك مصر وقتل شعبها دون رحمة واسقاط النظام كما جرى لنظامي صدام حسين ومعمر القذافي.
إن زيارات مسئولين خليجيين من السعودية وقطر إلى أديس أبابا وسد النهضة تحديداً تعكس تفاقم الأزمة بين القاهرة والرياض والدوحة وخروجها عن السيطرة بدليل كل هذا الاهتمام الذي أصبحت تحظى به أديس أبابا بعد أن ظلت منسية لعقود، لتتحول خلال اسابيع مزاراً لكبار مسؤولي الدول الخليجية في تحركات ليست عفوية على الاطلاق وإنما تنذر بحرب كارثية يجري الإعداد لها على نيران هادئة.
وكانت زيارة مستشار العاهل السعودى، أحمد الخطيب، الى العاصمة الإثيوبية وسد النهضة مؤخراً بمثابة تحدٍ لمصر، وليس، كما زعم، لبحث ما أسماه بتعزيز التعاون فى عدة مجالات، كما أن دعوة رئيس الوزراء الإثيوبى، السعودية إلى دعم سد النهضة والاستثمار فى إثيوبيا هي دعوة بالأصل سعودية والهدف إيصال رسالة إنذار الى القاهرة.
تقارير إعلامية سبق أن تحدثت عن مشاركة السعودية وقطر في تمويل سد النهضة الذي يحتاج إلى مليارات للانتهاء منه ، لاسيما وأن التسهيلات التي منحتها أثيوبيا لاسرائيل ومكنتها من اختراق القارة السمراء لم تحقق هذه الغاية..
وسائل إعلامية نقلت عن استاذ العلوم السياسية المصري حسن نافعة القول: «إن زيارة الوفدين السعودي والقطري لإثيوبيا ما هي إلا رسالة من السعودية وقطرمفادها أن بمقدورهما التحالف مع أي أحد حال لم تتجاوب القاهرة مع السياسة الخارجية للرياض، متوقعاً أن الزيارة ستزيد التوترات في العلاقات المصرية السعودية القطرية»، وقال: «إن القاهرة لن تتساهل أبداً مع أي دعم سعودي لمشروع بناء سد النهضة».. طرح كهذا يظهر حجم الخلاف والمخاطر الجديدة التي تهدد دول المنطقة في حال تفاقم هذه الأزمة وتحولها الى مواجهات مسلحة ما يعني أن شبه الجزيرة العربية والقرن الافريقي وشرق افريقيا مهددة بحرب مدمرة.
ونجد أن وزير المياه المصري الأسبق محمد نصر علام وبحسب “بوابة الأهرام” يطلق تحذيرات خطرة بهذا الشأن حيث يقول: إن مصر تتعرض لضغوط اقتصادية كبيرة وضغوط أمنية داخلياً وخارجياً، وتعيش وسط منطقة مضطربة لا يعلم أحد ماذا سيحدث غداً، ويقولها بصراحة وبمرارة: «اللاعبون معظمهم من الخارج وبتمويل عربى»، مشيراً إلى أن التحركات الخليجية في منطقة حوض النيل ستزيد من هوة الخلاف بين الطرفين، محذراً أن مسألة مياه النيل بالنسبة لمصر هي قضية أمن قومي ولايمكن للقاهرة أن تغض الطرف عن أي تحركات هناك في هذا الصدد.
وهكذا يبدو واقعياً أن مصر اصبحت محاصرة ومعزولة من قبل دول شرق أفريقيا وصار واضحاً للجميع اليوم أن المستهدف أو العدو الأول للسعودية ودول الخليج هي مصر وليست إيران كما يجري الترويج له، والأسوأ من ذلك أن إيران حاضرة في دول الخليج بقوة، بينما تم استبعاد مصر من أي حضور فاعل لها في دول الجزيرة العربية والقرن الأفريقي أيضاً..
فقد باتت مصر خارج اللعبة في القرن الافريقي وجنوب البحر الأحمر واصبح دورها للأسف اشبه بدور «شاويش» أو مجرد صياد سمك وتتحرك سفنها وبوارجها وفقاً لتوجيهات سعودية إماراتية.. هذه حقائق يجب أن يدركها الجميع مهما كانت مُرَّة، لاسيما وأن تشكيل تحالف عسكري خليجي أفريقي ضد مصر أصبح وراداً ولم يعد مستحيلاً على الاطلاق، هذا إن لم يكن مثل هذا التحالف العسكري قد اصبح موجوداً على الأرض لكن لم يُعلن عنه بعد.. ولو حافظت مصر على اليمن لما خنقت نفسها بهذا الشكل المخيف والقاتل، ولكان بمقدورها خلط الأوراق وقلبها على دول الخليج.. نعتقد أنه مازال هناك فرصة أخيرة أمام مصر.
محمد أنعم
benanaam@gmail.com