عدا الأجساد المتكرشة بفعل البيات الفندقي الطويل لا تملك شرعية الشتات من دنابيع وإخوان وأشباه يسار وقوميين، ورقة وازنة تجعل من لفيف المتلطين خلف قميصها رقماً ذا قيمة في حسبان أية تسوية سياسية تنتظر المشهد اليمني مستقبلاً.
وحتى مع كون اتفاق مبادئ مسقط لم يجرِ ترجمته على الواقع، فإنه يعد تطوراً نوعياً صوب تسمية أطراف الاشتباك العسكري في اليمن بأسمائها صراحة بمنأى عن حفلات التفاوض التنكرية من جنيف1 و2 إلى جولتي مشاورات الكويت!
لقد أثمرت متلازمة الانهماك في معركة الدفاع الوطني بكل الحواس مع الإصغاء المتفهم لدعوات طاولة الحوار والانفتاح على مبادرات السلام التي انتهجتها القيادة الثورية وقوى الداخل الوطنية، تحولاً نوعياً ـ إن جازت التسمية ـ في المقاربة الأممية والدولية للصراع في اليمن. تحول أفرغ الفرز العدائي المخاتل والمتصلب لأطرافه من دلالاته كلياً، فما من انقلاب وما من شرعية، بل صاحب أرض ضارب الجذور لا قدرة على اجتثاثه أو تجاوزه، وآخر فزاعة بلا روح باتت نافقة وبلا جدوى!
إلى ذلك فإن جرأة القيادة الثورية الوطنية في انتهاج بدائل عملية ضمن الواقع الموضوعي للبلد، على غرار المجلس السياسي الأعلى، قد وضعت حداً للعبة إضاعة الوقت في مشاورات عقيمة استهدفت من خلالها واشنطن الرياض إدامة حالة الفراغ السياسي في مؤسسات الحكم وجعل البت فيه وقفاً على الرضوخ لهيمنة إملاءاتها.
إن خشية التحالف السعودي الأمريكي من أن يفلت المشهد السياسي اليمني كلياً من خناق المرجعيات المكبلة له على طاولة المشاورات بإطلاق المجلس الأعلى، هي ما دفعته لإعاقة عودة وفدنا الوطني إلى صنعاء واحتجازه لشهور في العاصمة العمانية مسقط، مع أن مشاورات الكويت كانت قد علقت لأجل غير مسمى من قبل الأمم المتحدة.
أدرك تحالف العدوان أن سياسة المضيِّ إلى الأمام التي دشنتها القيادة الثورية حينها، آيلة لاستقطاب مؤازرة دولية مرجحة في ظل تباينات روسية صينية ـ أمريكية متفاقمة، وعليه فإن من الأسلم ـ وفق تقديره ـ التشبث بخيط الصلة الأخير مع مشهد يمني متغير، عبر احتجاز وفدنا في مسقط ومزاولة ضغوطات دبلوماسية يومية عليه خلال شهور احتجازه لقسره على الالتزام بسقف تنازلاته التي قدمها في مشاورات الكويت وأجهضها ولد الشيخ بتحوير بنود الاتفاق الشامل في اللحظات الأخيرة من جولة المشاورات نزولاً عند رغبة الرياض.
بات الصيَّاد اليوم ـ وبعد أكثر من عام ونصف العام من تدشين شراكه وتكشير مخالبه ـ موضع الطريدة، فعلى مستوى غير مأزق من مآزق تحالف العدوان لا غنى لواشنطن ـ الرياض عن ذل تسوُّل نجدة خصومها الذين قامت استراتيجيتها منذ البدء على مبدأ اجتثاثهم وتثبيت سلطة وكلائها على أنقاضهم؛ فيما باتت الطريدة ـ بالمقابل ـ في فسحة جيدة من أمرها، فهي لا تكتفي بالدفاع ـ فحسب ـ بل تهاجم وتتقدم في عمق العدو، بالتوازي مع إدارتها عصفاً ديبلوماسياً فذاً، حتى من محبسها في مسقط إبان الحظر الجوي، حيث أربكت زيارة وفدنا حينها إلى العراق ترتيبات العدوان لا سيما وقد استيأس تماماً من أن وفدنا الوطني يمكن أن يقدم تنازلات نظير تمكينه من العودة لصنعاء، بمنأى عن التنسيق مع المجلس السياسي الأعلى!
إن اتفاق التهدئة في الـ10 من إبريل الفائت، هو أنضج تعبير عن رضوخ الصياد لحاجته الملحة إلى استجداء رحمة الطريدة التي توشك أن تقوض حدَّه الجنوبي، إلا أنه ـ أي الصياد ـ أراد لهذه التفاهمات أن تقتصر على جنوب المملكة مقابل صعدة والعاصمة صنعاء، وحينها خرج عادل الجبير، وزير خارجية العدوان، بتصريح قال فيه “إن الحوثيين هم جيراننا ولا نستطيع إنكار جوارهم”.
كذلك الحال بالنسبة لوزير خارجية واشنطن حين أدلى بدلو خارطة طريق من جدة في الـ25 من أغسطس الفائت، حيث قال “إن الحوثيين يؤلفون أقلية يمنية بنسبة 20 % لا يمكن تجاوزها”.
إن سياج العزل كاستراتيجية اعتمدها التحالف منذ 26 مارس العام الفائت للحيلولة دون أن تتنفس دبلوماسية مناهضة العدوان هواء الاتصال السلس إقليمياً ودولياً باستثمار تباينات المسرح الأممي لجهة ردع العدوان، سياج بات من الماضي، رغم أن الحصار الجائر جواً وبحراً وبراً لا يزال يطبق على خناق الشعب والبلد.
تود واشنطن-الرياض لو أن “أنصار الله” يفاوضونها حول ما تظنه “أطماعهم في السلطة” بمعزل عن آلام وآمال الشعب اليمني، نظير أن تحظى الحركة باعتراف دولي؛ إلا أن رسوخ الأنصار في تربة الحلم الوطني العام غير مواتٍ لما تصبو إليه واشنطن-الرياض، لذا فإن كل اتفاق تهرول إليه بدافع الألم، سرعان ما يسفر عن خديعة تستهدف تبديد الوقت بأمل إحداث متحوِّل ميداني يتيح لها منصة إملاءات على طاولة التفاوض عوضاً عن مفاوضات الند للند.
في حوار موفمنبيك السابق للعدوان، قال القيادي الإخواني الإصلاحي محمد قحطان، موجهاً حديثه لـ”أنصار الله: اتفقوا مع الرياض ثم احكموا فوق رؤوسنا وسنقبل!
بالنسبة لبالونات التحالف من عملاء ومرتزقة، والتي تستمد وزنها من نفخ أولياء نعمتها في خليج البترودولار، فإن مقايضة قحطان الآنفة هي مربط الفرس وخلاصة القضية.
أما على جانب “أنصار الله” والقوى الوطنية الأخرى فإن الخيار هو الاستقلال الناجز، وكل طريق لا تفضي إليه مرفوضة مطلقاً مهما طال أمد الحرب!