بعيداً عن تشعب وتعقيدات التفصيل في مسألة الصلة بين الأخلاق والسياسة, فإن التسليم بوجوب إسناد السياسة إلى إطار مرجعي للأخلاق يجعلنا نتبين من شروط الوصل والفصل بين الموقف الأخلاقي من السياسية أو الموقف السياسي بمرجعية الأخلاق, وبيان ماهية الحالات السياسية التي تلزم الموقف منها بقيم وأخلاق, وبعبارة أخرى, متى وكيف يكون الموقف السياسي محكوم أخلاقياً بالرضى والحمد أو بالسحط والتجريم؟
يحدد عدد من كتاب وإعلاميي جماعة الاخوان أساساً أخلاقياً للمواقف التي اتخذتها أحزاب وجماعات ومفكرين وكتاب مما يسمونه انقلاباً عسكرياً على الرئيس المنتخب في مصر, محمد مرسي, في 30 يونيو 2013م, بحيث يحكم هؤلاء بالسقوط الأخلاقي لمؤيدي ما يسمونه الانقلاب العسكري على الديمقراطية والرئيس المنتخب في مصر, ويعتبرون هذا الموقف خارج أي اطار سياسي مفتوح على الاختلاف ومحكوم بالحرية والاحترام, لأنه في رؤيتهم محكوم بالأخلاق ومدان بها كخطيئة وجريمة, فهل الأمر كذلك حقاً في الحالة المصرية؟! وهل هذه الحالة محكومة بالأخلاق وخارجة عن السياسة بنسبية أو إطلاق؟ وهل كان إسقاط مرسي وجماعته انقلاباً عسكرياً خالصاً وخالياً من اي مبررات وسمات سياسية؟
تقول الوقائع التي سبقت فوز المرشح الاخواني برئاسة جمهورية مصر أن القوى السياسية والاجتماعية ومعها قطاعات من الدولة المصرية قد اختلفت مع جماعة الإخوان في برنامج إدارة المرحلة الانتقالية في مصر, حول أيهما أولاً: الدستور الجديد للدولة المصرية, أم الانتخابات التشريعية والرئاسية, وقد فرض الإخوان بتفاهمات مع المجلس العسكري أولوية الانتخابات التشريعية لمجلسي النواب والشورى, وقد استخدم الاخوان أغلبيتهم في المجلس لصالح مشروعهم السياسي ورؤيتهم الدينية للسلطة والدولة من خلال تشكيل لجنة صياغة الدستور الجديد للدولة المصرية, مما حرك القوى السياسية للتصدي لمحاولة استئثار الإخوان بصياغة الدستور, عبر القضاء الذي حكم ببطلان انتخابات مجلس الشعب, وبالتالي حل المجلس المنتخب.
وقبل إعلان فوز مرسي بالانتخابات الرئاسية, وبعدها, توافقت جيع القوى السياسية في مصر مع الرئيس المنتخب وجماعة الإخوان وجناحها حزب الحرية والعدالة, على قضايا, منها إعادة النظر في لجنة صياغة الدستور, وهو ما لم يلتزم به لا الرئيس ولا الجماعة وحزبها, متمسكين بمسار تصاعدي لخلافاتهم مع القوى السياسية ومع قطاعات الدولة المصرية ثم مع فئات اجتماعية, مثل المرأة والطرق الصوفية والقبطية, لتتفاقم أزمة الخلاف بين الإخوان وبقية شركاء الانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظام حكم مبارك في 2011م, مع إصدار الرئيس مرسي للإعلان الدستوري المحصن لقراراته من سلطة القضاء, وما تلا ذلك من إقرار للدستور بالصياغة والاستفتاء, فنشأت حركة تمرد لحشد تأييد شعبي لمطالبتها بانتخابات رئاسية مبكرة.
فشلت كل المحاولات الخارجية والداخلية للتوسط بين الإخوان وقوى المعارضة الرسمية, فاتخذت حركة تمرد قراراً بانتفاضة شعبية يوم 30 يونيو, للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة, أعلن الجيش المصري أنه سوف يقوم بحمايتها والاستجابة لمطالبها بعد جهود سرية وعلنية لقيادات الجيش مع رئيس الجمهورية, انتهت بموقف علني حدد مهلة أسبوعين لحل الأزمة السياسية أولاً, ثم يومين بعد انتفاضة 30 يونيو, ليقوم بعدها بالاستجابة للمطالب الشعبية بإعلان دستوري جديد لمرحلة انتقالية جديدة.
وعند التوقف في يوم 30 يونيو 2013م, سنرى خلف ضخامة الحشد الشعبي ما يلي:
- كل القوى السياسية المعتبرة والمشاركة في انتفاضة 25 يناير 2011م ضد الإخوان ومرسي ومؤيدة لخارطة طريق جديدة.
- كل الفئات المجتمعية والابداعية من شباب وامرأة ومثقفين وأدباء وكتاب, ومن متصوفة وسلفيين وأقباط مع خارطة طريق جديدة.
- كل قطاعات الدولة من هيكل إداري, وسلطة قضائية, وجيش وأمن مع خارطة طريق جديدة.
- جماهير وأنصار حزب مبارك الذين نافسوا المرشح الاخواني في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية مثلوا 48% من أصوات المقترعين. وكانوا القوة الأكثر تطرفاً في المطالبة برحيل مرسي وحكم الاخوان.
وهكذا كان الاصطفاف السياسي يوم 30 يونيو منقسماً بحدة وشدة بين جماعة الاخوان كطرف وبقية القوى السياسية والفئات الاجتماعية وقطاعات الدولة المصرية كطرف مقابل, وبمرجعية الأخلاق, يكون الموقف منحازاً للكل ضد فريق ومؤيداً للجميع ضد فئة واحدة, ذلك أن المعركة قبل يوم 30 يونيو وعندها كانت صراعاً سياسياً ابتداءً من خطيئة استباق التأسيس للانتقال الديمقراطي بدستور محقق للتوافق والتعاقد, بانتخابات تقود إلى الاستيلاء على السلطة وإعادة بنائها وفقاً لمشروع الإخوان , وانتهاء بعدم الاستجابة للمطالب السياسية والشعبية والتعامل معها بمرونة وواقعية, أو حتى بدهاء واحتيال بعيداً عن صلف الغرور بالقوة والقدرة, فمثلاً, كان بمقدور مرسي في خطابه الطويل قبل يومين من انتفاضة 30 يونيو, أن يعلن قبوله بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة, ويطالب القوى السياسية بتعيين ممثليها في الحوار السياسي حول الحكومة الوطنية والفترة الزمنية لهذه الانتخابات, ربما كان بهذا سيتيح لنفسه وقتاً كافياً للتعامل مع الأزمة بعد أن أسقط مبررات الانتفاض الشعبي يوم 30 يونيو أو على الأقل كشف أوراق الشرعية التي استند إليها الجيش في تأييد الانتفاضة الشعبية العارمة على شرعية الرئيس المنتخب.
إذاً, فهل كان انقلاباً عسكرياً على رئيس منتخب ما جرى في مصر يوم 30 يونيو 2013م؟ وماذا عن تأييده الكامل سياسياً والغالب اجتماعياً ورسمياً؟ وهل كان الدستور الذي تفرد الإخوان بصياغته وفرضوه لاستفتاء شعبي تأسيساً للديمقراطية وانتقالة إليها حتى يكون تعليقه انقلاباً على الديمقراطية؟ وقبل هذا وبعده, هل أدار الإخوان خلافاتهم مع القوى السياسية المصرية وفقاً لمقتضيات الانتفاضة الشعبية ومحددات الانتقال إلى الديمقراطية؟ وهل أحسنوا الرد على ما وصفوه بالمؤامرة الخارجية وتصدوا لها بحكمة وحنكة؟
لا تعترف جماعة الإخوان بأنها أخطأت في التصور والتصرف, ولا حتى في إدارة المعركة مع من تصفها بقوى التآمر عليها من داخل مصر وخارجها, وبالتالي, فقد كانت هي وحدها جماعة الخير التي تآمرت عليها كل قوى الشيطان والشر, ومع هذا الاعتقاد السائد على الجماعة, فإنها لا تحاسب نفسها عما قصرت فيه بالخطأ أو النسيان في الدفاع عن الحق والتصدي لحزب الشيطان وأهل الباطل والتأمر ولا تؤمن أن الله سيسألها عما كسبت في ذلك بيدها, من أعمال وعواقب , ألم يكن غرور الكثرة سبباً لهزيمة عسكرية في معركة قادها خاتم النبيين؟ وهم يعرفون كل الأمثلة في هذا وعنه.
ومع ذلك فإن الذين يتخذون الأساس الأخلاقي مرجعاً لتجريم وإدانة ما جرى في مصر يوم 30 يونيو 2013م, من منطلق اعتباره انقلاباً عسكرياً ضد الديمقراطية وعليها, لا يعترفون بأخطاء الجماعة وخطاياها, ولا يرون ما تدل عليه وقائع الإجماع المناهض للإخوان سياسياً واجتماعيا وشعبياً, ولا يرون ما عملته الجماعة لتقطع الطريق إلى الديمقراطية, واغتنام الفرصة لإقامة الدولة الدينية كما هي في تصورهم التاريخي لدولة الاسلام, وبهذا صيغ الدستور وعليه اعتمد في كل نصوصه ومواده, فالدستور الاخواني لم يكن ديمقراطياً ولا مؤسساً للانتقال الديمقراطي, لأنه لا يمثل التوافق السياسي ناهيك عن التوافق الوطني ولأنه تضمن في المادة الثانية وفي المواد 182, 219, نصوصاً تتخذ الإسلام إطاراً محدداً للحريات والحقوق وتعينه بعد ذلك بمذاهب أهل السنة والجماعة, ثم إن شرعيته بالاستفتاء الشعبي جاءت بقوة السلطة التي كانت للجماعة في مجلس الشورى وفي لجنة الصياغة وفي رئاسة الجمهورية المحصنة بالإعلان الدستوري وبجماهير الإخوان التي تحاصر مبنى السلطة القضائية.
وإجمالاً, هل ترك مرسي والجماعة للمصريين سبيلاً آخر غير ما جرى في 30 يونيو؟ لم يتركوا خياراً ولا سبيلاً آخر, وكانت 30 يونيو 2013م كـ 25 يونيو 2011م, شعب مصر بكل قواه ومكوناته محمياً بجيش مصر في مواجهة سلطة حكم, والأساس الأخلاقي للموقف يلزمنا بوحدة الحكم على القضية الواحدة من حالات اختلاف جهاتها وزمانها ومكانها, ولكن الاخوان سيرون كل مخالف لهم ومعارض في السياسة على أساس أخلاقي مجرماً ومداناً, لأنهم في الأصل يرون سواهم كفارا.
عبدالله الدهمشي