لم تعد تفاصيل مجزرة “جمعة الكرامة” 18 مارس 2011، سرا، فما يتفق عليه الجميع أن 19 متهما ضبطوا متلبسين وبحوزتهم أدوات الجريمة من سطوح البنايات القريبة من معسكر الفرقة الأولى مدرع، حيث اطلقوا النار على المشاركين في الاحتجاجات أثناء أداء صلاة الجمعة، واعتقلوا جميعا بعد ارتكاب الجريمة دون أن تطلق عليهم رصاصة واحدة.
ساعة اعتقالهم اعلن أفرد اللجنة الأمنية بساحة التغيير وجميعهم من حزب الاصلاح أنهم سيقودونهم إلى منزل الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر في حي الحصبة، لكن المتهمين اقتيدوا إلى مركز قيادة الفرقة الأولى مدرع بقيادة الجنرال علي محسن.
يومها كانت قوات الفرقة بقيادة الجنرال محسن هي المكلفة رسميا وفقا لقرار أصدره مجلس الدفاع والرئيس السابق علي عبدالله صالح لحماية ساحة التغيير ولعل صالح أراد بهذا القرار وقف تداعيات كان يتوقعها، وشاهد الجميع جنود الفرقة ينتشرون في طول ساحة التغير وعرضها لشهور.
أفراد اللجنة الأمنية بساحة التغيير قبضوا على الجناة واجروا معهم تحقيقا كاملا تم توثيقة صوتا وصورة في افلام فيديو بحضور محامين كبارا يتصدرهم المحامي محمد ناجي علاو صاحب مؤسسة “هود” الذي اعلن في يوليو 2011 احتراق مؤسسته القانونية، قبل أن يسلموهم إلى قيادة الفرقة الأولى مدرع بقيادة اللواء على محسن الذي كان حينها جزءا من النظام السابق ويطالب شباب الثورة الإطاحة به، قبل إعلانه الانشقاق عن النظام السابق وتأييد مطالب شباب الثورة.
كان قرار اللجنة الامنية التابعة للإصلاح تسليم المتهمين إلى قوات عسكرية خاضعة لنفوذ الرئيس السابق الذي يتظاهرون لإسقاطه غريبا ومثيرا للتساؤل، والاكثر غرابة أن الجناة مكثوا في سجون الفرقة الأولى مدرع اياما فيما أفرج الجنرال محسن عن عدد منهم في ظروف غامضة وسُلم 16 منهم إلى النيابة .
رغم الاعلان المدوي للجنرال محسن الانشقاق عن نظام صالح ومناصرة شباب الثورة ومطالبهم ظل ملف مرتكبي المجزرة سرا وولم تُعرف أسماء المتهمين الذين ادعوا سجون معسكر الفرقة المجاور لساحة التغيير، كما لم يحال من الجناة إلى المحاكمة سوى سبعة ولم يحاكموا حتى الآن.
كل الذين صوروا الحادث بما فيهم قناتي “الجزيرة وسهيل” اللتان كان لديهما فريق تلفزيوني يرصد ويسجل كل صغيرة وكبيرة قالوا بعد الحادث أنهم لم يصوروا الجناة الذين التقط بعض الهواه صورا ضعيفة لهم ملثمين عندما كانوا يطلقون الرصاص من سطوح البنايات على المصلين.. والمؤكد أن الجناة حينها لم يركبوا طائرة اقتيدوا سيرا وشاهدهم كثيرون .
محسن انشق عن نظام صالح ثم اطلق الجناة !
أفاد اللواء على محسن لمنظمة هيومن ريتس وتش أنه افرج عن القتلة بأوامر من الرئيس السابق! وهي الافادة التي اثارت الشكوك حوله خصوصا وهو كان أعلن بعد ثلاثة ايام من من مجزرة جمعة الكرامة انشقاقه عن نظام صالح وافادته لمنظمة هيومن رايتش ووتش حصلت بعد ايام عدة.
قبل مجزرة الكرامة كانت التقارير تتحدث على استحياء عن مساعي بعض الدوائر الخارجية والداخلية وتحديدا تنظيم الاخوان الذي كان فرض سيطرة كاملة على ساحة التغيير بصنعاء وساحات الثورة الشبابية في المحافظات وبحثها عن وسيلة فعالة أو حدث يزلزل نظام على عبدالله صالح ويقوضه من الداخل خصوصا وأنه بدا صامدا أكثر من سابقه الرئيس المصري السابق مبارك.
المجزرة التي حصلت ظهر الجمعة 18 مارس 2011 لم تحقق هذا الهدف وتلاها الحدث الذي أصاب نظام صالح في مقتل، فبعد أربعة أيام اعلن اللواء على محسن الأحمر الانشقاق عن نظام الرئيس السابق وتلاها إعلانات منسقة لكثير من المسؤولين والوزراء والمتقلدين مناصب عليا في الجهاز الاداري للدولة الانشقاق عن نظام صالح.
كان الهدف قلب الطاولة على نظام صالح بعدما فشلت جريمة “جمعة الكرامة” في تحقيق ذلك.
انفراد قناة “الجزيرة” التي تمثل الذراع الإعلامية الضاربة لتنظيم الإخوان بإذاعة بيان انشقاق الجنرال محسن لم يكن أداء إعلاميا خارقا للعادة كما يعتقد البعض، فالفيديو كان مسجلا قبل ذلك الوقت، وقد حقق الغرض منه بنقل اهتمام الشارع إلى منطقة بعيدة عن جريمة جمعة الكرامة، كما قلل شأن التحقيقات والمبادرات الطوعية التي بذلت لا ظهار الحقيقة.
ملاحقات وتصفيات
ما لم يعرفه البعض أن كثيرا من الأطراف التي حاولت اظهار الحقيقة في هذه ا لمجزرة المروعة تعرضوا لتهديد وإرهاب وضغوط وصلت إلى حد التصفيات الجسدية والاغتيالات والاخفاء القسري.
وبعض شهادات ذوي الضحايا كشفت عن وثائق واستمارات طبية جاهزة لبيانات الشهداء ومعلومات مضللة عن عملية القتل ومكانه، فالجهة الوحيدة التي تولت إسعاف الضحايا هي مستشفى العلوم والتكنلوجيا وهو واحد من اهم استثمارات حزب الاصلاح في العاصمة، وكان هذا المشفى مسيطرا على سائر مفاعيل القضية.
حتى مساء 18 مارس 2011 كانت بيانات المستشفى الميداني واطباء مستشفى العلوم والتكنلوجيا تتحدث عن 41 قتيلا وبعدها تصاعد الرقم إلى اكثر من خمسين قتيلا.
تلاعب بملف القضية
منظمة العفو الدولية لم تعترف حتى الآن بالتحقيقات التي أجرتها الفرقة الأولى مدرع وكذلك التحقيقات التي أجرتها اللجنة الامنية في الساحة وكانت الفرقة محورا أساسيا في إدارتها، حتى أنها طالبت في احد بياناتها أجراء تحقيق محايد ومدعوم دوليا في شأن القضية.
هذا الموقف لم يكن اعتباطيا قطعا بل جاء نتيجة انكشاف التلاعب الكبير في ملف القضية واعمال التلفيق واخفاء المعلومات والتي افضت إلى اطلاق سراح الجناة عبر الجنرال محسن وتلفيق وقائع غير حقيقية حتى أن القضاء اليمني اقر في الجلسات الأولى أن ملف القضية غير صالح
لا قامة الدعوى القضائية، قبل أن تنتج المطابخ ذريعة جديدة صرفت انتباه الناس عن حقيقة أن ملف القضية غير صالح لاقامة الدعوى، بعدما اصدر القضاء طلب تصدي تضمن طلبا بالتحقيق مع أطراف في النظام السابق يتصدرهم الرئيس السابق وهو الحدث الذي غيب كل شيء في ملف القضية واشاع انطباعا أن الرئيس السابق هو من يعرقل سير التحقيق في القضية.
والتلاعب الذي حصل في ملف ووثائق القضية التي تجاوزت الــ 2500 صفحة، لم يأت من فراغ فالطرف الرئيسي الذي أدار عملية التحقيق واحتجز المتهمين لديه واستحوذ على ملفات التحقيق كان قطع شوطا كبيرا في خلط اوراق ا لقضية وقدم للمحاكم ملفا مغاير تماما لحقيقة الوقائع حتى أن القضاء اليمني عجز عن التعاطي أو المضي في ملف القضية.
وصل التزوير الفج في الوثائق اختراع مسميات جديدة تواكب الحملة الدعائية حيث كان إسم تظاهرات الجمعة يوم 18 مارس هو ” جمعة الإنذار” وفق ما اعلنت اللجنة التنظيمية للثورة الشبابية التابعة لحزب الإصلاح حينها ثم اطلق عليها الاعلام الدعائي ومطابخ الجريمة ” جمعة الكرامة” بصورة فجة اثارت الشكوك والسخط معا خصوصا وأن هذا التزوير حصل في الوقت الذي كانت كثير من وسائل الاعلام التقطت صورا للوحة الرئيسية للتظاهرة في شارع الستين مكتوبا عليها ” جمعة الانذار” ومؤرخة بــ 18 مارس 20111.
كل هذه الاعمال استهدفت في الواقع خلط الأوراق وإخفاء معالم الجريمة ومنفذيها الحقيقيين.
وبدا ذلك من أوراق التحقيق وملف القضية ظل مختفيا بحوزة حزب الاصلاح واختفت لوقت طويل ثم تسربت وكانت كلها مضطربة وحشدت عددا كبيرا من الأطراف أكثرهم ليس لهم صلة بالقضية وجرى حشرهم فقط لارباك المشهد واخفاء معالم الجريمة.
ملاحقات وضغوط وتصفيات
بعد أسابيع من المجزرة كانت كل وسائل الإعلام تتحدث عن علاقة خفية بين التحقيقات في مجزرة جمعة الكرامة وعمليات اخفاء قسري للعديد من شباب الثورة والعسكريين لكن هذا الملف سرعان ما اقفل لصالح ملفات اخرى.
القيادي في حزب الإصلاح ووالد احد شهداء الثورة الشيخ عبدالسلام البحري لم يستطع الصمت اكثر فأدلى لصحيفة “اليمن اليوم” بشهادة خطيرة للغاية كشفت النقاب عن استهداف ممنهج في عملية القتل الجماعي التي جرى التخطيط لها بعناية بعدما تم جلب العشرات من حفظة القرآن الكريم لاداء الصلاة في موقع الجريمة وكانوا جميعا مميزين بأربطة حمراء على رؤوسهم واكثر ضحايا المجزرة كانوا من هؤلاء.
المطبخ الارهابي الذي دبر الجريمة كان يريد ان يستثمر الدين والقرآن لتحقيق أهدافه الخبيثة، فعملية قتل جماعي بهذه الوحشية لشباب من حفظة القرآن الكريم كانت كافية للاجهاز على النظام واسقاطه بضربة معلم.
الأدهى أن الضالعين بهذه الجريمة كانوا يخططون لدفن ضحايا المجزرة في مقبرة جماعية كان يعد لإتهام صالح بالضلوع فيها.
الشيخ البحري وهو عضو مجلس شورى حزب الإصلاح واستقال من عضوية الحزب بعد استشهاد أبنه في المجزرة، قال إن أبنه اُعدم بصورة عمدية خارج ساحة التغيير، في عمارة يملكها القيادي في حزب الاصلاح حميد الأحمر في حي النهضة بصنعاء، ما دعاه وآخرين للاستقالة من حزب الإصلاح.
طرح شباب الثورة اسئلة كثيرة عن مصير وأقوال ضابط الفرقة الأولى مدرع عبدالله المخلافي الذي كان يتولى مسؤولية ادارة ونشر الجنود المكلفين بحراسة شباب الثورة في المنطقة التي حدثت فيها المجزرة لكن أحدا لم يقدم اجابات حولها سوى انباء تحدثت عن تصفيته.
في كل مناسبة لإحياء ذكرى المجزرة كانت الأذرع الإعلامية التابعة لتنظيم الإخوان وفي المقدمة قناة “الجزيرة” تثير قضايا جانبية تصرف اهتمام الناس عن ملف هذه القضية.. ولا زالت تمارس الدور ذاته حتى اليوم الذكرى الخامسة للمجزرة.